عبث بعض العابثين بالغرب بمفهوم الأخلاق قبل وأثناء كاس العالم، وبالقدر الذي أصبنا فيه بالصدمة اتجاه من تعودنا أن يقدموا لنا دروسا في الأخلاق والحضارة، بالقدر الذي تابعنا فيه سقوطا مروعا لورقة التوت عن عورتهم.
عندما تجاوز وليد كل الحواجز التنظيمية بملعب الثمامة متوجها صوب أمه لمعانقتها كان بصدد تثبيت مفاهيم تربينا عليها بالمغرب منذ نعومة أظافرنا، وعندما رقص بوفال بعفوية كبيرة مع أمه على أرضية الملعب، فهو كان حينها يقول للعالم أن هذه هي أمي التي صنعت مني واحدا من صناع ملحمة قطر 2022، لكن إعلام دولة الدنمارك المتحضرة عاد بنا إلى زمن اللاإنسانية وهو يشبه الأمر بقردة تحضن أطفالها، وهو مشهد اعتدنا متابعته بطبيعة الحال فقط في الأفلام الوثائقية، ولم نحسب يوما أن نجد أشخاصا أوروبيين في “غابتهم المتحضرة” يشبهون رضا الوالدين بسلوك القردة، حينها أدركت أن الحيوانات قد تعطينا دروسا قد تتفوق أحيانا على آدميتنا، كما تذكرت حجم الأزمة التي تعيشها تلك الدول بسبب تحقيقات كشفت أحيانا صعوبة تذكر الأبناء للأب والأم في سن متقدمة بسبب الانفصال المبكر، وكيف أن دور المسنين أصبحت تجارة مربحة في ظل تفسخ روابط العائلة، وبالتالي يصعب تصور ان يستوعب تلك الصور “فاقد الشيء”.
رفع لاعبو المغرب سبابتهم إلى السماء بعد فوز كبير على البرتغال، وهي طريقة تجمع بين التوحيد وبين شكر الله على منة الفرح الذي نشروه على الخصوص وسط المغاربة، لكن الألمان لم يقتنصوا من تلك الصورة هذه الفضائل، بل استعانوا بقاموس من الصور النمطية مشبهين لاعبين شباب بداعش، متناسين أنهم برفقة الباقين من دعّم الدواعش بطريقة أو بأخرى بحثا عن مكاسب “جيواستراتيجية” بدون أن يظهروا في الصورة. وحتى وهم يقدمون الاعتذار بطريقة محتشمة كان الأمر قضي، وسقطت ورقة التوت عما تبقى من حيائهم، فقد انفضحت لعبة التأويل بحثا عن تشويه صورة تشكلت، صورة زعزعت بعض الأحكام الجاهزة عن مجتمعات إسلامية لم تشوهها سوى سياسات أنظمتها السياسية الداخلية.
وضع أمير قطر “البشت” على كتف ميسي قبل تسلمه كأس العالم، وبالقدر الذي كان فيه الأمر ذكاء وترتيبا من القطريين لتصدير هويتهم وثقافتهم كما فعلوا طيلة المونديال، بالقدر الذي يحمل فيه ذلك السلوك في ثقافتنا العربية مفهوم “التكبير” و”التقدير الفائق” للشخص المكرم، فالحسن الثاني كان عندما يريد الاعتراف بقيمة شخص ما ينزع “سلهامه” ويلبسه إياه.
لكن الألمان رأوا في الأمر إساءة لصورة ميسي الذي كان من المفترض أن يحمل قميص بلاده، بل إن المقدمة لم تجد حرجا في القول إنها شعرت بألم في بطنها وهي تتابع ذلك المشهد. حينها تأكدت أن الغرب يود احتكار كل القيم والاحتفاظ بنفسه مصدرا لها. ولم أجد أفضل من مثل شعبي بالمغرب يلخص كل شيء “مَّوالِينْ الميت صبْرُو، والعَزّايَة كَفْرُو” (عائلة الميت صبرت، ومن حضروا للعزاء لم يصبروا)، ذلك أن ميسي لو كان يرغب في نزع “البشت” لفعل، ولن يجد حرجا في ذلك، فصورته وحضوره يفوقان ما يملكه رؤساء دول من سلطة، لكنه فضل الاحتفاظ به وهو يتوجه صوب زملائه راقصا، في الوقت الذي دخلت فيه تلك الصورة التاريخ، لأن الصورة الأولى والأخيرة لأي مونديال هي صورة حامل كاس العالم، وقطر نجحت في ذلك بتخطيط مسبق، وكانت قريبة من تسجيل نقطة أخرى بعد نزول ميسي من الطائرة في بوينس آيرس عندما حاولت سيدة وضع كوفية تحمل إسم قطر على كتفيه، لكن الإجراءات التنظيمية حالت دون ذلك. أما الصحفية الألمانية وزميلها فتأسفا على أن تلك الصورة سيحتفظ بها التاريخ ولا يمكن تغييرها أبدا.
لن أخوض في مضمون الحملات التي تعرض لها قطر قبل المونديال بخصوص المشروبات الكحولية والمثليين، لكنني أستغرب من قيمة التناقض الذي يلف خطاب الغرب، فقد أشبعونا أحاديثا وخطابات عن أهمية القبول بالتعددية الثقافية والفكرية والهوياتية، وعن أهمية الحفاظ على الثقافات المحلية، بل أدرجوها ضمن مشاريع اليونسكو وباقي فروع الأمم المتحدة ومختلف ندوات ومشاريع الجمعيات غير الحكومية، وفي الوقت ذاته يخاطبك هذا الغرب بوجوب أن تقبل بثقافته داخل حدودك حتى لو تعارضت مع قيمك وثقافتك المحلية، يتحدثون عن حقوق العمالة بشكل جارف، وهو أمر لا نختلف عليه، لكن يتناسون ما يفعلونه في إفريقيا من نهب لثروات النيجر ومالي بعمالة مشكلة من أطفال يقتاتون من حفر الكهوف بحثا عن الذهب واليورانيوم، يتحدثون عن الأضرار التي لحقت بالبيئة نتيجة عملية تبريد ملاعب قطر، وتناسوا عملية تسخين ملاعب أوروبا في شتاء طويل.
قضيت شهرا كاملا بقطر، لم أصادف تحرشا واحدا، ولا مضايقة من أحد لأي زائر، بل ترحابا كبيرا وتنظيما غير مسبوق، وصادفت جماهير من دول أوروبا وأمريكا منبهرين بما تابعوه، وهي أصوات لا ترغب بعض وسائل الإعلام الغربية في إيصال صوتها. قد يكون الغرب، بدون تعميم، ناجحا ومتميزا في إعطائنا دروسا في الديموقراطية، لكن ربما فشل في تقديم دروس في الأخلاق، ويكفيه أن يلقي نظرة عن سورة الحجرات في القرآن ليكتشف أن من شدة احتوائها على مبادئ أخلاقية حملت إسما آخر وهو سورة الأخلاق.
في قطر، ولجنا مجالس مفتوحة للعموم، كنتَ عربيا أو عجميا، وجدنا كرما واستقبالا لا يختلف عما يلاقيه أي زائر للمغرب، عشنا أمنا فريدا ببيوت ومحلات مفتوحة بأمان ولم نفقد أي شيء ولم نتعرض لأي ابتزاز أو نصب مالي من تاجر بنغالي أو باكستاني، قضينا شهرا كاملا في جو من الأخلاق في مجتمع يفضل الحفاظ على تقاليده، وهذا حقه في مجاله الجغرافي والسيادي، إنه مونديال لا يشبه إلا نفسه. فليس من رأى كمن سمع.
المصدر: القدس العربي