الرئسيةذاكرةرأي/ كرونيكشواهد على التاريخ

وداعا غزلان…لن ننسى صرختكِ إلى الأبد!

اليوم غادرت الحياة واحدة من أبرز الوجوه الشابة لحركة 20 فبراير بالدار البيضاء . وهي الحركة التي يُشهد لها بأنها ناضلت باستماتة وصدق ضد كل ما يعيق تحقيق الإنسان المغربي (المسحوق والمضطهد) لذاته، في ظل سيادة الظلم والاستبداد والفساد والريع والامتيازات...

بقلم محمد بوطيب

في أحد الأحياء الشعبية بالدار البيضاء اجتمع ظهر اليوم نساء ورجال يوحدهم حب غزلان، وتقديرهم لنضالها والوفاء للقيم التي دافعت عنها. أتوا لعناقها وكأنها لم تمت، وهذا هو “درس الموت الأول. فالموتى لا يموتون إلا إذا ماتت أماكنهم في قلوبنا وعيوننا”. فكيف تموتين وأنت تحتلين قلوب كل رفيقاتك ورفاقك، الذين تجمعوا اليوم لتودعيكِ؟ ليس هناك ما هو أقسى من توديع شخص للمرة الأخيرة، حتى ولو كان ذاهبا للفردوس الأعلى..

بقلم محمد بوطيب

الوداع في حد ذاته مصيبة. فما بالك إذا كان الوداع بسبب الموت، أي ذلك الشعور بالرحيل الأبدي لمن تحب: لن تراه مرة أخرى، لن تلمسه، لن تصافحه، لن تعانقه، لن تجالسه مرة أخرى، لن تحاوره، لن تجادله، لن تتفق معه، لن تتخاصم معه، لن تسافر معه، لن تمشي معه على شاطئ البحر، لن تتقاسم معه وجبة فطور، لن تكتب إليه ولن يكتب إليك، لن تهديه باقة ورد في عيد ميلاده، لن تهاتفه، لن تتسكع معه في دروب المدينة عندما يهطل المطر، لن تمشي معه في المظاهرة المقبلة للمطالبة بالكف قليلاً عن قتلِ ما بقي من حُلمٍ، لن تحط رأسك على كتفه بعدما تُتعبك الحياة وتسخر من آمالك وآلامك…هكذا يخاطبنا الموت بقسوة، ويُلقي علينا نظرة باردة ويمُر…

اليوم غادرت الحياة واحدة من أبرز الوجوه الشابة لحركة 20 فبراير بالدار البيضاء . وهي الحركة التي يُشهد لها بأنها ناضلت باستماتة وصدق ضد كل ما يعيق تحقيق الإنسان المغربي (المسحوق والمضطهد) لذاته، في ظل سيادة الظلم والاستبداد والفساد والريع والامتيازات…


ها هي واحدة من بنات الحرية ترحل في ريعان شبابها، دون أن تجد، هي ورفيقاتها ورفاقها في الحركة، البارحة واليوم، سبيلا لإرضاء رغبتهم الجامحة في رؤية مغرب آخر، غير هذا الذي يقف في صف الأغنياء والظالمين.

يحتوي النضال الذي خاضته غزلان، وبنات وأبناء جيلها ممن انخرطوا في حركة 20 فبراير وآمنوا بتطلعاتها نحو المساواة والحرية والعدل الاجتماعي، على رغبة شديدة في انتزاع الاعتراف، على الصعيد السياسي، بالشعب كمصدر للسيادة والسلطة باعتباره صانعًا للحياة ومُنتجًا للخيرات المادية والمعنوية…

لقد شعر شعبنا في شتاء 2011 بأنه قادر على امتلاك زمام أمورهِ بيده…وهذا بالضبط ما سعت إليه غزلان ورفيقاتها ورفاقها في حركة 20 فبراير: إعطاء الكلمة للناس الذين نجحوا في تكسير حواجز الخوف، ولفت الانتباه إلى حقوقهم الأساسية، والإشارة بشكل واضح لمن يدوسون عليها تحت الأقدام، والمطالبة بإسقاطهم…

لقد آمنت غزلان بأن الشعب يريد حقه دون تلك الوساطات المفرطة في الخوف والاعتدال إلى درجة التواطؤ…غزلان ومن جايلها قالوا يكفي من الوساطات التي جربت الحوار والتوافق والمناورة ولم تفلح…لتجد نفسها، في نهاية المطاف، في مأزق لا تُحسد عليه..

رحيل غزلان بنعمر رحمة الله الواسعة على روحها، جعل الجيل الذي عاش حركة 20 فبراير بكامل جوارحه، وانخرط فيها بكامل وعيه وأحاسيسه، يشعر وكأن جزء منه يغادر الحياة…هكذا يجعلنا الموت، مرة أخرى، نتفقد الأحلام الجماعية وهي ترحل..الموت شيء فظيع وموجع ومؤلم وقاسٍ.

إنه تجربة الانتهاك الوحيدة التي تُعاش كاعتداء شنيع يستهدفنا في شموليتنا، يفتك بنا ويُدمّرنا بالكامل.. والأنكى من ذلك أن الموت هو الانتهاك الوحيد الذي لا تستطيع صَدّهُ، لذا فهو قاسٍ، قاسٍ جدًّا.

لقد آمنت غزلان بالمضطهدين والمقصيين من بنات وأبناء هذا الشعب الصبور والمكابر، وكافحت لأجل أن ينعموا بقليل من الاحترام والكرامة…
لقد ماتت غزلان، لكن ذكراها ستظل حية في قلوب كل من يعرفونها، وستظل صرختها المُنشِدة لمغرب الكرامة والمساواة والحرية تدوي عاليا في شوارع البيضاء وساحاتها.

وداعا غزلان، “فغدًا سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً. يوقد النار شاملةً. يطلب الثأرَ. يستولد الحقَّ من أَضْلُع المستحيل. لا تصالح”. هذا ما وعدنا به أمل دنقل، وكل أملي أن تظل ذكراكِ حيَّة، كي لا ننسى بأن الشعب لا زال يُريد كل ما كافحْتِ لأجله…وسيعود يومًا ما إلى الساحات التي ستفتقدكِ، وهذه المرة سيدركُ أن الحلم الذي يتوقف في، عالم السياسة، في منتصف الطريق ينتحر.

أراكِ نائمة فقط، لا ميتة يا غزلان، بعد أن قمتِ بواجبكِ وأكثر تجاه وطنك وبنات وأبناء شعبك…

كل ما أعرفه اليوم يا رفيقتي وأنا أضم ألمي إلى بحر الآلام التي تُودّعكِ بحرقة حد الإضناء، هو أنكِ كنتِ، ومئات الآلاف من أبناء شعبنا، في تلك الأيام الواعدة بتفتح الأمل، ضد سيادة الظلم حتى النهاية، ولسان حالكم يكاد يردد عبارة الثورة الفرنسية في بدايتها التي أعلنت بجرأة وحزم لا مثيل له: “نحن هنا بإرادة الشعب”. نعم يا غزلان لقد كنتِ هناك بإرادة شعبك الذي أراد للظلم والاستبداد الذي يحميه أن يزول إلى الأبد، لكن خانته أشياء كثيرة، ليس أقلها، نخب مشتتة تعبد اجترار الكلمات الميتة..

ها هو ذا جسدُكِ يا غزلان يرتقي ليعانق السماء لكن روحُكِ ومبادؤُكِ وآمالُكِ ستظل راسخة في كل شبر من تراب وطنكِ، إلى أن تصير أحلامكِ واقعا مُزهِرًا ينعم فيه أطفال بلدكِ بالخبز والحنان والغناء…

دعيني، في الأخير، أسألكِ على لسان إلياس خوري: “قولي لي هل صحيح أن الموتى حين يخرجون من الحياة يدخلون في حلم طويل لا نهاية له. يتحولون من بشر يبحثون عن حلم إلى حلم لا يبحث إلاَّ عن نفسه؟

قولي لي كيف نصنع حلماً جديداً، وكيف نحمي حياتنا من الوحش الذي ينهش مجتمعاتنا، ويدفع بها إلى الهاوية؟”

ولأنكِ ما عدتِ قادرة على الكلام، يأتيني صوت رفاقك خافتًا، متحدِيًا ألم الموت والفقد والرحيل: لتستمر المقاومة ضد الاستبداد…هكذا بدأت حكاية غزلان وهكذا ينبغي أن تنتهي، إلى أن تُنبِت الهتافات أزهارا في كلِّ مكان…
وداعا غزلان. وعزائي الحار لأفراد أسرتكِ، وأحبابكِ، ورفيقَاتكِ ورفاقُكِ واحدةً واحدًا دون استثناء..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى