“بلاد كلما ابتسمت حط على شفتيها الذباب”…الروائي السوداني حمور زيادة يكتب: الخرطوم …الفصل الأخير
“بلاد كلما ابتسمت، حط على شفتيها الذباب”. … الشاعر عاطف خيري
رغم الوساطة الدولية، وقبول القوى العسكرية بالحل السياسي، اشتعلت الحرب بين قوات الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي). إلى آخر لحظة، ظلّ الرجلان يؤكّدان عدم رغبتهما في الحرب، حتى أن السفارات الغربية وبعثة الأمم المتحدة في السودان لم تصدر أي منها تحذيرا من انفجار الأوضاع. … مارس كلاهما خداعاً محكماً على كل الأطراف، فأظهرا رغبة في السلام، ثم ذهبا إلى الحرب.
أصاب القتال المحتدم في العاصمة الخرطوم البنية التحتية الهشّة بأضرار بالغة، وتم تدمير مطار الخرطوم منذ الساعات الأولى للمعركة، ما عزل البلاد بالكامل، وأدّى إلى حصار المدنيين في ساحة الحرب.
ومع دخول الطيران الحربي إلى المعركة، زاد تفاقم سوء الأوضاع، فأصبح القصف الجوي يدور داخل العاصمة، مذكّراً بمعارك دارفور التي كان الجيش السوداني يوفر فيها الغطاء الجوي لقوات الجنجويد البرّية. وهو الأسلوب الحربي الذي تسبّب في سقوط ضحايا مدنيين كثر في غرب السودان، وأدّى إلى اتهام نظام الرئيس السابق عمر البشير بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.
لا يبدو الرجلان المتصارعان على استعداد لأخذ هدنةٍ مراعاة للأوضاع الإنسانية السيئة. ويرفضان الجلوس للتفاوض. وقرّر كل واحد منهما أن يدّعي مبرّراً برّاقاً لحربه، فقائد الجيش عبد الفتاح البرهان يزعم أنه يخوض الحرب ردّاً على تمرّد قوات الدعم السريع، ومن أجل دمجها في الجيش. وقد أعلن في ثاني أيام العمليات العسكرية حلّ هذه القوات، وإنهاء انتداب ضباط الجيش فيها.
وعلى الجانب الآخر، يزعم حميدتي أنه يخوض الحرب دفاعاً عن النفس بعد هجوم من الجيش، ومن أجل التحوّل المدني الديمقراطي. وفي ملهاة مثيرة للتعجّب، يرسل الأخير رسائل إلى المجتمعيْن المحلي والدولي، مندّدة بحليفه السابق قائد الجيش، وأنه انقلابي متعاون مع الحركة الإسلامية ويرفض التحول الديمقراطي في السودان. ومع اتهامات متبادلة بين الطرفين بالحصول على دعم دولي، تبدو الخرطوم موعودة بحربٍ ذات امتداداتٍ إقليمية ودولية غير معروفة المصير والعواقب.
يزيد الأمر خطورة أن وساطات دولية نجحت في انتزاع قبولٍ بهدنة إنسانية قصيرة بهدف إجلاء الرعايا الغربيين من البلاد، ما يشير إلى مرحلة حرب طاحنة قادمة. وتزداد الأوضاع الإنسانية سوءاً في أنحاء البلاد، مع تراجع خدمات الكهرباء والمياه، وشحّ المواد الغذائية.
كما أن النظام الصحي أوشك على الانهيار، ما يجعل ملايين السودانيين في مواجهةٍ مباشرةٍ مع الموت. ومع إلحاحها، لا تبدو هذه المسألة أولوية عند الطرفين وعند جهاتٍ كثيرةٍ ذات صلة في الإقليم والعالم. فحتى نداءات وقف إطلاق النار، تبدو رتيبةً باردةً، كأنما تنتظر من مشكلة السودان المعقّدة بوجود جيشين أن تنهي نفسها بهذه الحرب، حتى يمكن للمجتمع الدولي الضغط بعد ذلك على الطرف المنتصر. ورغم الاهتمام المباشر للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس، إلا أن الطرفين يرفضان الجلوس للحوار بحجّة القدرة على حسم الأمر عسكرياً.
ومع موجة النزوح منها إلى مدن أخرى لا تزال آمنة، تستعد الخرطوم لمعركة فاصلة في الأيام المقبلة، من شبه المؤكّد أن ينتصر فيها الجيش السوداني، لميل عوامل القوة كلها لصالحه.
ولكن المقلق أن قوات الدعم السريع التي صمدت كل هذه الأيام في وجه حليفها السابق تبدو قادرةً على إيذاء خصمها والمدنيين، ربما لفترة قد لا تكون قصيرة.
وحتى إذا نجح الجيش السوداني في إحراز نصر سريع يطيح رأس قوات الدعم السريع، يبقى خطر تفرّق هذه القوات في شكل عصابات صغيرة في العاصمة والمناطق المجاورة لها، فسلوك قوات الدعم السريع السابق في مناطق القتال في دارفور يثير القلق بشأن مستقبل ما سيحدُث في الخرطوم.
إنها معركة كسر عظامٍ محمومةٍ بين الحليفين السابقين للسيطرة على مقاليد الحكم في بلدٍ منهكٍ منكوب، هدّته سلطة قمعية حكمت 30 عاماً، وشهد أطول حرب أهلية في المنطقة امتدّت إلى حوالي نصف قرن، وعاش تحت الحصار والمقاطعة الدولية ربع قرن، وارتُكبت فيه مذابح وإبادة جماعية أدّت إلى نزوح الملايين من سكانه. في هذا الوضع الهشّ، تأتي حرب الجنراليْن، البرهان ودقلو، لتبدو فصلاً أخيراً شديد القتامة في بلاد لم تعرف الهدوء منذ عقود.