لا احترام لسلطة متعجرفة في خدمة أقلية ميسورة و لاسلام دون عدل..انتفاضة “البؤساء” بفرنسا
“لا سلام دون عدل!”، لا سلام اجتماعياً دون عدالة اجتماعية، لا احترام للسلطة عندما تصبح تسلطاً متعجرفاً في خدمة مصالح فئات قليلة ميسورة ومميزة على حساب أكثرية الشعب.
يلخص هذا الشعار، الذي ردده المشاركون في المسيرة التضامنية مع قضية المراهق ناهل، الذي أطلق شرطي مرور عليه النار من مسافة سنتيمترات قليلة وأرداه قتيلاً، روح الانتفاضة الجارية حالياً في فرنسا، وهو ترجمة لشعور باختلال كبير في ميزان العدالة الاجتماعية الذي أصبح عابراً لأطياف المجتمع الفرنسي بأغلبيتها في ظل حكم الرئيس إيمانويل ماكرون، والذي تفاقم بعد انتخابه لولاية ثانية في ربيع 2022.
لم تعد “البؤساء” (لي ميزيرابل ـ 2019) للمخرج لادج لي، ولا “باك نور” (2020) للمخرج سيدريك خيمينيز، ولا “أتينا” (2022) للمخرج رومان غافراس، مجرد أفلام سينمائية بوليسية خيالية تدور أحداثها الثورية العنيفة في الضواحي الفرنسية، بل أصبحت واقعاً معيشاً مع الانتفاضة التي انطلقت بُعيد مقتل ناهل على يد شرطي مرور.
الانتفاضة الحالية ليست يتيمة سياسياً أو اجتماعياً
تختلف انتفاضة صيف 2023 في فرنسا عن انتفاضة الضواحي في 2005 التي جرت بُعيد مقتل المراهقين: زياد وبونا؛ بسبب ملاحقة الشرطة لهما. الانتفاضة الجارية حالياً ليست انتفاضة يتيمة سياسياً، أو معزولة عن باقي فئات المجتمع الفرنسي، أي كما كان الوضع سنة 2005.
اليوم، من جهة أولى، أعلنت صراحة أحزاب اليسار، كحزب فرنسا الأبية بقيادة جان لوك ميلانشون، وحزب الخضر، وحتى الحزب الاشتراكي، تضامنها مع قضية ناهل، ومنهم من رفض أن يدعو مناصريه للتهدئة.
ومن جهة أخرى، لافت هو التضامن على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الشباب الفرنسي من خارج الضواحي، لا سيما طلاب الثانويات والجامعات، مع قضية مقتل ناهل، بالإضافة إلى مشاركتهم في الاحتجاجات والمظاهرات، لا سيما المسائية منها، حتى في أحياء برجوازية محسوبة تقليدياً على اليمين، كالاعتصام الذي جرى مساء الجمعة 30 يونيو على مشارف ساحة كونكورد (وهي ساحة اعتادت أحزاب اليمين أن تجري فيها مظاهراتها واحتفالاتها)، والمسيرات في شارع ريفولي التجاري في قلب العاصمة الفرنسية باريس، الذي يقع فيه متحف اللوفر والفنادق الفخمة.
تأتي هذه الانتفاضة اليوم في جو من الغليان الاجتماعي، كتتويج لشهور من الاحتجاجات المعيشية ضد “إصلاحات” فرضها ماكرون، لا سيما فيما يتعلق بنظام التقاعد، وفي ظل ضائقة معيشية ناتجة عن تضخم الأسعار، لا سيما أسعار المواد الغذائية وأسعار الطاقة، وذلك بعيد أزمة الكوفيد، وكانعكاس للحرب الدائرة في أوكرانيا.
وعليه، إنّ ما يميز الانتفاضة الحالية عن تلك التي سبقتها هو أنها تشكل نقطة تلاقٍ بين “بؤساء” في المجتمع الفرنسي، وتقاطع بين نضالات اجتماعية وسياسية مختلفة، منها ضد عنف الشرطة، ومنها ضد العنصرية والإسلاموفوبيا، وأغلبها معيشية، وكلها تدور حول فكرة أساسية قوامها: كفى عجرفة في التعاطي السياسي والأمني!، ومطلب رئيسي يمكن تلخيصه بضرورة تواضع الرئيس الفرنسي وتعامله باحترام مع الشعب ومطالبه. بكلام آخر، إنّ تقاطع الأزمات، منها البنيوي، ومنها الظرفي ـ المرحلي، ولّد تقاطع النضالات الذي تجسّد في هذه الانتفاضة الحالية.
الغضب على عنف الشرطة يتوسّع
أما توسّع الغضب على عنف الشرطة الفرنسية، فمرده إلى أنه بين 2005 و2023، جرى كثير من المياه، وما عاد ضحايا عنف الشرطة الفرنسية فقط من سكان الضواحي، وهم غالباً من المهاجرين أو من أبنائهم من الأجيال اللاحقة المولودين في فرنسا.
في الولاية الأولى لماكرون، اختبر المشاركون في احتجاجات السترات الصفراء أيضاً، وهم كانوا غالباً من خارج بيئة الضواحي التي يسكنها المهاجرون، عنف الشرطة الفرنسية، لا سيما الاستخدام “غير المتناسب” للقوة الذي أدانه صراحة كل من البرلمان الأوروبي (فبراير 2019) والأمم المتحدة عبر بيان لمجموعة خبراء في حقوق الانسان (14 فبراير 2019).
وقد جعلت المواجهات التي حصلت بين الشرطة الفرنسية والسترات الصفراء، أو بعد ذلك بين الشرطة من جهة، والمحتجين على تعديل نظام التقاعد أو مؤخراً الناشطين البيئيين من جهة أخرى، أطيافاً واسعة من المجتمع الفرنسي، لا سيما من البيئات الاجتماعية الموجودة على هامش مراكز المدن المستفيدة من العولمة بشكل عام، وليس فقط بيئة ضواحي المهاجرين، تدرك مدى العنف الممارس من قبل الشرطة ومخاطره. فبعد أن كان استشعار مخاطر عنف الشرطة حكراً على بيئة ضواحي المهاجرين، توسع إدراك هذه المخاطر ليشمل تدريجياً بيئات أخرى أكثر انتشاراً ضمن المجتمع الفرنسي.
وقد كان تعديل المادة 435ـ1 من قانون الأمن الداخلي في شباط 2017، في أواخر عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند، لجهة توسيع الحالات التي يمكن للشرطي أن يستعمل فيها سلاحه، قد مهّد لغلو بعض عناصر وضباط الشرطة الفرنسية في استعمال العنف.
عجرفة ماكرون
وتقاطع النضالات المتجسدة نوعاً ما في الانتفاضة الحالية هو تحديداً أكثر ما يقلق الماكرونية السياسية الحاكمة، وهي التي اعتادت على سهولة سياسة “فرّق تسُد”، وذلك عبر تأليب فئات اجتماعية ضد فئات اجتماعية أخرى كلما احتجت فئة اجتماعية على الإجحاف اللاحق بها وطالبت بتحسين أوضاعها المعيشية.
ولذلك، فقد اضطر ماكرون سريعاً لإدانة إطلاق النار من قبل شرطي على الشاب ناهل، وقد نحا نفس المنحى وزير داخليته، المشهور بدفاعه الدائم عن الشرطة وقربه من نقاباتها، لا سيما اليمينية منها، والخضوع لمطالبها. ولنفس السبب، ما زال ماكرون يقاوم ضغوط أحزاب اليمين واليمين المتطرف لفرض حالة الطوارئ، وذلك تلافياً منه لمفاقمة الغضب الشعبي عليه.
لم يستخلص ماكرون العِبَر من الدرس الذي لقّنه إياه الناخب الفرنسي في ربيع 2022 بوجوب التواضع في ممارسته السياسية، وهو درس تجسّد عبر حرمان ماكرون من الأكثرية المطلقة في الجمعية الوطنية الفرنسية (مجلس النواب) بعيد إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية، وذلك في سابقة منذ التعديل الدستوري الذي جرى سنة 2000 والذي قصّر مدة ولاية رئيس الجمهورية من سبع إلى خمس سنوات، أي إلى نفس مدة ولاية أعضاء الجمعية الوطنية.
كابر ماكرون على ضعف شعبيته الناتج عن إعادة انتخابه كأهون الشرين، أي لقطع الطريق على وصول مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، وبنسبة عدم مشاركة قياسية (منذ خمسين عاماً) في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية.
عاكس ماكرون الإرادة الشعبية، وبدل أن يجد وسائل لتمويل نظام التقاعد في سبيل الحفاظ على المكتسبات التي يعطيها للعمال (في حين انّه كان ألغى مثلاً في 2018 الضريبة على الأغنياء التي كانت تدر مداخيل معتبرة على مالية الدولة)، فرض تعديل نظام التقاعد عبر اللجوء للمادة 49ـ 3 من الدستور، ضارباً بعرض الحائط وعوده بنقاش وتصويت ديمقراطي بالبرلمان، محتقراً كل الغضب الشعبي الذي تم التعبير عنه بإضرابات واحتجاجات ضخمة في الشهور القليلة الماضية، مكتفياً بقانونية (دستورية) ما فعله، ولو على حساب المشروعية الشعبية. النتيجة كانت انفجار الانتفاضة، أما الشرارة فكانت مقتل الشاب ناهل على يد شرطي.
وبالمناسبة، ربما من الجدير ذكره، ولو استطراداً ومن خارج السياق، أنّ النهج المتعجرف في التعاطي السياسي هذا ينسحب أيضاً على تعامل ماكرون في العلاقات الدولية، مثلما حصل مؤخراً مع لبنان عبر محاولة فرض مرشح الممانعة، سليمان فرنجية، كرئيس للجمهورية.
المستفيد الأول ممّا يحصل: اليمين المتطرف
أما المستفيد الأول مما يجري حالياً في فرنسا فهو اليمين المتطرف، لا سيما مارين لوبان وإيريك زيمور اللذان لا يبرعان غالباً إلا في الاستثمار العنصري في الأزمات الاجتماعية، لا سيما الاستثمار في القلق المشروع الناتج عن العنف المضاد، أي عن أعمال الشغب المرافقة للانتفاضة الجارية حالياً في المدن الفرنسية، وذلك لرفد الفوبيا من المهاجرين، وخطاب صراع الحضارات، والتخويف العنصري من “الاستبدال الكبير”، كل ذلك قبل أشهر قليلة من نقاشات حامية من المتوقع أن تشهدها الجمعية الوطنية الفرنسية حول مشروع قانون جديد متعلق بالهجرة واللجوء.
أما ماكرون، فيبدو كالمعزول عن الواقع في برجه العاجي، يزور بعض المدن الفرنسية (مرسيليا مؤخراً) كالسائح المتعجرف الغريب عن بلده، ليس لديه إلا الحل الأمني لكل ما يحصل، وذلك بدل معالجة الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية للغضب، فهو يتهرب مع بعض أجهزته الحكومية من تحمل مسؤولياتهم فيما يجري عبر إلقائها تارة على أهل المنتفضين، وتارة عبر اتهام اليسار وبعض نجوم الفن أو كرة القدم الذين عبروا عن تضامنهم مع قضية ناهل، وتارة عبر تحميل المسؤولية لـ… ألعاب الفيديو!
وكأنّ كل ما يفعله ماكرون هو التمهيد، ولو ربما من حيث لا يريد، لوصول اليمين المتطرف للسلطة، بعد انتهاء ولايته الثانية.
فبعد أن نال حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف ما يقارب التسعين مقعداً في الجمعية الوطنية الفرنسية في الانتخابات النيابية الأخيرة (2022)، أي بعد انتهاء الولاية الأولى لماكرون، وذلك في سابقة في تاريخ الجمهورية الفرنسية، لم تكن يوماً رئيسة هذا الحزب، مارين لوبان، أقرب إلى أبواب الإليزيه أكثر مما هي عليه اليوم، في بداية الولاية الرئاسية الثانية لماكرون.
وكأنّ كل ما يفعله ماكرون هو التمهيد، ولو ربما من حيث لا يريد، لوصول اليمين المتطرف للسلطة، بعد انتهاء ولايته الثانية. فبعد أن نال حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف ما يقارب التسعين مقعداً في الجمعية الوطنية الفرنسية في الانتخابات النيابية الأخيرة (2022)، أي بعد انتهاء الولاية الأولى لماكرون، وذلك في سابقة في تاريخ الجمهورية الفرنسية، لم تكن يوماً رئيسة هذا الحزب، مارين لوبان، أقرب إلى أبواب الإليزيه أكثر مما هي عليه اليوم، في بداية الولاية الرئاسية الثانية لماكرون.
المصدر: المقال منشور ب”عربي بوست”