الرئسيةرأي/ كرونيكمجتمع

روائي وصحافي جزائري يكتب: رسالة إلى أحد الناجين من زلزال المغرب

بقلم سعيد خطيبي
روائي وصحافي جزائري

كنا أربعة مُراهقين، في شقة تقع في الطابق الثالث، من عمارة بُنيت في السبعينيات، نلعب الدومينو. والصديق (ب) مصر على الأخذ بثأره وكسب الجولة، بينما صوت مذيع يندلق من الراديو، يُنبئنا بأحوال الطقس وأن الحرارة لن تتعدى العشرين درجة، مع سحب طفيفة، في ذلك اليوم من شهر مايو 2003، عندما تحركت الأرض من تحت أقدامنا، وتحول زجاج النافذة إلى شظايا. أول ردة فعل قمنا بها ـ لا إراديا ـ أن انبطحنا أرضاً على بطوننا، فشعرنا بأن الثلاثين ثانية التي دامت فيها الهزة تُعادل دهراً.

أطول نصف دقيقة في حياة من عايش تلك اللحظة. قبل أن نركض إلى الخارج، بسرعة عدائي المئة متر، ونصادف الجيران وقد خرجوا كلهم، ينظرون من حولهم بشفاه متدلية، من غير أن ينطقوا بكلمة.

الأطفال الذين كانوا لا يهدأون التزموا الصمت كذلك، ثم شرع كهل في تلاوة سورة (الزلزلة) بصوت عالٍ، وبمجرد أن أتمها حتى خاطبه رجل أقل سناً منه يبرر الهزة بكثرة المعاصي والابتعاد عن الشريعة، بينما آخر بررها بغضب الشهداء مما آل إليه حال أحفادهم.

وأنا أستمع إلى التفسيرين من غير رد. هكذا هو الحال دائماً، خرافة تلد أخرى، وفي لحظة الفزع تنشط حواس الغيبيات ويتوارى العقل. انتبهت إلى أنني كنت حافي القدمين، والجيران حفاة أيضاً، حين فتح رجل باب سيارته وشغل الراديو، لكنه عجز عن التقاط موجة الإذاعة الوطنية. كانت الساعة في حدود السابعة مساءً، وانتظرنا ساعة أخرى، فعلمنا ببعض التفاصيل.

. لقد ضرب زلزال مدينة بومرداس، بقوة 6.8 على سلم ريختر. وعلى الرغم من أننا كنا نبعد عن بؤرة الهزة ببضع عشرات الكيلومترات، فقد شعرنا بها، وخيم الفزع ليلتها، بينما الأخبار عن بومرداس ظلت شحيحة، عقب انقطاع كابلات التليفون. في اليوم التالي عرض التلفزيون صوراً مما وقع، بنايات تهاوت مثل مكعبات ليغو، والخسائر وصلت إلى شرق الجزائر العاصمة. فصرنا نملأ الشاحنات بمساعدات عاجلة إلى المناطق المتضررة، وبلغت الحصيلة أكثر من ألفي ضحية، من غير الحديث عن آلاف الجرحى.


عشرون عاماً بعد تلك المأساة، يتكرر الأمر في المغرب. ونشرة الأخبار تقول إن الهزة التي ضربت إقليم الحوز، بلغت 6.8 على سلم ريختر. بالدرجة نفسها التي ضربت بومرداس.. تاريخ من المآسي يكرر نفسه، من الجزائر إلى المغرب، نعيش حاضرنا بذاكرة من الماضي.

عشرون عاماً بعد تلك المأساة، يتكرر الأمر في المغرب. ونشرة الأخبار تقول إن الهزة التي ضربت إقليم الحوز، بلغت 6.8 على سلم ريختر. بالدرجة نفسها التي ضربت بومرداس.. تاريخ من المآسي يكرر نفسه، من الجزائر إلى المغرب، نعيش حاضرنا بذاكرة من الماضي.

في لحظة الهزة يصير الوقت عدوك.. في العادة يميل الناس إلى التعامل مع الوقت بتأنٍ، يظنون أن الصبر طريقهم إلى الخلاص، لكن كل شخص من إقليم الحوز أدرك عبثية هذه الفكرة، الأسبوع الفارط.

إنها فكرة رومانسية لا تليق سوى بالكسالى. وأدرك الناس في إغيل، تارودانت، أغمات وشيشاوة، أن الوقت كلما طال من غير أن يتخذوا قراراً فإنهم يُضاعفون من فرص الهلاك. كل ثانية يضيعونها يترتب عنها مزيد من الخسارات. لكن إلى أين الفرار؟

ونحن نعيش بين الإسمنت. نبني بيوتاً من إسمنت، ونظن أن الإسمنت يحمينا، لكنه سوف يصير أداة قتل. أتذكر سيدة من بومرداس (التقيت بها عاماً بعد زلزال 2003) وهي تحدثني عن زوجها الذي سقط حائط البيت على رأسه. هل ما زلنا نظن أن الحيطان بوسعها أن تحمينا؟ لست شاهد عين عن زلزال 8 سبتمبر، لكن بوسعي أن أتخيل أصوات الناس.

ففي تلك الأثناء تنكمش اللغة إلى جملة واحدة. تختفي مفردات القاموس ولا نتذكر سوى السؤال: «أين فلان؟». فالجميع يبحث عن الجميع. آباء يبحثون عن أبنائهم وأبناء يبحثون عن آبائهم. وكلما تأخرنا في العثور عن شخص زادت المخاوف من أن يكون تحت الركام. وقد يُساورنا أن نجاة من زلزال ستكون فأل خير على صاحبها، لكنها ليست كذلك في بعض الحالات.

فمن ينجو سوف يصطحب معه صدمته النفسية، خوفه، قلقه، تشاؤمه، وقلة ثقته في ما يجري من حوله. فنجاة البدن ليست تعني نجاة القلب. حين يقع زلزال في الحادية عشرة ليلاً، سوف يصير الليل مكب أزمات نفسية. لن يبقى مثلما سبق، ليلاً يتغنى به شعراء أو عشاق، بل يصير نذير شؤم، لا يؤتمن.

كم من شخص باغته زلزال إقليم الحوز وهو نائم؟ هل سوف يثق في النوم مرة أخرى؟ ولا بد أن الناس في المغرب سمعوا مثلما كنا نسمع في الجزائر، عن أن الزلازل تنتج عن معاصٍ وعن ابتعاد عن الدين، فلا أحد سوف يفكر ـ في لحظة الخوف ـ في عوامل جيولوجية، ولا أحد يهمه رأي خبير، بل الكل يصير خبيراً. والكل يرجو أن تصل إليه الإسعافات قبل الآخرين. ثم تمضي الساعات الأولى، وتتسع اللغة بعدما انكمشت. ونسمع عبارات من قبيل: عدة أشخاص ماتوا في المكان الفلاني، آخرون ماتوا في مكان آخر. ننعتهم في البداية بالأشخاص، قد نذكر أسماء من نعرفهم، أو نحدد أعمارهم، لكن بدءاً من اليوم التالي يصيرون أرقاماً وكفى. تفقد الضحية هويتها وتصير رقماً على الألسنة، أو في برقيات وكالات الأنباء.

ويصير الإنسان في حاجة إلى معجزة قصد الاستفاقة من الهزة التي عايشها. لكن المعجزات لا وجود لها في الواقع. ويصير الناجون في حاجة إلى الوقت لمداواة أنفسهم. الوقت الذي كان عدونا في لحظة الزلزال يصير نصيرنا في تجاوز الأزمات التي خلفتها المأساة.


أتذكر الصديق (ب)، الذي سألني عقب ثلاثة أيام من زلزال بومرداس: «هل نواصل لعب الدومينو؟». كان يود مواصلة الجولة التي أوقفتها الهزة. كان مصراً على كسبها.

تماما هو الحال مع من نجا من الزلزال في المغرب. سوف تنقضي أيام ويقرر مواصلة جولات الحياة، ثم ينفض الغبار من يديه ومن ثيابه ويتذكر أنه وُلد كي يحيا، إكراماً لأرواح الضحايا ودفاعاً عن حقه في العيش.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى