المغاربة والحب في المنصات.. الخلاف الكبير
بقلم: هدى سحلي
من المثير والممتع أن يثير مجرد محتوى رقمي حول المواعدة أو التعارف بين الأنثى والذكر في سياق مغربي، كل هذا اللغط والسخط عند مجتمع الأنترنت حدّ المطالبة بالتدخل الأمني.
ومن المثير أيضا أن يعكس مجرد محتوى رقمي كل هذه المعاني والقضايا، التي قد نظن أنه جرى تجاوزها والحسم فيها، متأثرين بصورة “MOROCCO” في شبكات التواصل الاجتماعي ولايفات السياح العرب، متناسين شعب المغرب “MAGHREB”.
ومن المثير أكثر، أن يصادف هذا المحتوى نقاش المدونة وتنظيم الأسرة والمساواة، حيث الصراع بين المرجعيات والايديولوجيات، بين الحداثي والمحافظ، ثم يتفق بعض من الفريقين في رفض هذا المحتوى الالكتروني والتبرؤ من “صاية أو شورت” الفتاة.
BLIND DATING BY OUTFIT في نسخته المغربية، ليس مجرد محتوى رقمي منسلخ عن ثقافة المغاربة، ولا مجرد محاولة استنساخ فاشلة، يريد أصحابها إسقاطها على المجتمع وضرب قيمه المحافظة مقابل ترسيخ ثقافة وقيم (الحداثة). هو برنامج أصحابه مغاربة، ويشارك فيه شباب مغاربة، يعرفون ثقافة المجتمع، ويحملون قناعاتهم الخاصة وتنعكس في سلوكهم.
هو نموذج يعلن عن وجهة نظر أخرى، عن ثقافة مختلفة، ونموذج وذوق في الحياة مغاير لما نعرفه ونألفه، لكنه متواجد وكامن بيننا، وما ينفك يعلن عن نفسه بشكل عفوي أو بشكل مخطط له، والنماذج في ذلك متعددة خلال العقدين الأخيرين من تاريخ المغرب.
فلماذا نواجه دائما هذه الانفلاتات بالرفض والإقصاء والتحقيق الأمني عوض الهدوء والتروي أولا، ومحاولة الفهم؟ نرخفو النفس شوية.
القناة الالكترونية “كواليس” التي تبث هذا البرنامج تضع ما يمكن أن نعتبره خطا تحريريا تقول فيه “في كواليس نحن نؤمن بقيمة الحوار وبالتنوع الثقافي، ونفتح أبوابنا لكل فرد ليعبر عن أفكاره وآرائه بحرية وتلقائية تامة، بغض النظر عن الموضوع أو اللغة التي يختارها، هنا كل فكرة ستجد لها مكانا تنمو فيه، وكل صوت سيجد آذانا تصغي إليه”، وتضع شعارا “حنا هما حنا”.
وعليه، فنحن أمام موقف يدعو للحوار، مختلف ويصر على اختلافه، منفتح على الآراء الأخرى دون عوائق لغوية أو ثقافية. ومن هذا المنطلق حق له علينا أن نحاوره ونختلف معه.
تتمحور فكرة برنامج المواعدة العمياء في نسخته المغربية، والذي يعرض في حوالي أربعين دقيقة، على شابة تبحث عن شريك لها من خلال اختيار أحد الشباب بناءً على ستايل لباسه وطريقة كلامه والهوايات التي يميل إليه دون أن تراه.
ولأن الصورة حمّالة قيم، والقيم في مواجهة قيم أخرى تخلق الجدل، والجدل هنا غير مرتبط بفكرة البحث عن الشريك، إنما يتعلق بملابس الفتاة التي اعتبرها البعض عارية وخادشة للحياء، ويتعلق أيضا بحالة ذهنية تفترض أن الرجل صاحب الاختيار وليس مختارا بين آخرين، وبالتالي فالبرنامج “مهين للرجال ومذل لهم”، ويشجع على “العلاقات العابرة”، ويسيء لحميمية الحب والجنس، ويحطّ من قيمة الإنسان ويعلي من قيمة اللباس.
هذا بعض الخلاف الذي أثير على منصات التواصل ووجد صداه في بعض المنابر الإعلامية، وصولا إلى الفرقة الوطنية للشرطة القضائية للتحقيق في شبهة “المساس بالأخلاق العامة والتحريض على الإخلال العلني بالحياء بواسطة الأنظمة المعلوماتية”.
وخارج هذا الخلاف، هناك بعض القضايا التي يثيرها هذا البرنامج وغيره من المنصات الرقمية التي تجعل من العلاقات موضوعا لها، والتي أجد من وجهة نظر شخصية أنها تستحق النقاش حولها، وتتعلق بالقيم التي يتم تداولها على المنصات الرقمية وضمن المحتوى الإلكتروني، منها قيمة الحب والعلاقات بين الأنثى والذكر، وقيمة الإنسان مقابل القيم المادية.
فما يعاب على هذا النوع من البرامج، أو تطبيقات التعارف مثل «TINDER» و«soulchil» وغيرهما، هو الاتجاه نحو تسليع الحب والعلاقات الرومانسية وتحويلها إلى مجرد خيارات خالية من أي التزام عاطفي، مجرد قرار تتخذه بنقرة في إحدى التطبيقات المخصصة للبحث عن الشريك والمواعدة، بعد أن تطرح عليك العديد من الخيارات حسب المواصفات التي تبحث عنها، بالتركيز على المظهر والمكانة الاجتماعية وشكل الجسم وموضة اللباس.
حب كهذا “آمن بدون مخاطر”، وفقا لمفهوم الفيلسوف الفرنسي ألان باديو، في كتابه “في مدح الحب”: “إنه حب مؤمّن في مواجهة كل المخاطر: سوف تحصل على الحب، لكنه سوف يحسب لك جيدا علاقتك العاطفية، وسوف يختار لك شريكك بحرص شديد عبر شبكة الأنترنت، بالحصول طبعا على صورة فوتوغرافية له، وذوقه بالتفصيل، ويوم مولده، وبرجه- إلخ، ويمزجها في خليط، فتقول لنفسك: هذا خيار آمن يخلو من المخاطرة!”.
هو حب رقمي ينزع من الحب صفته كخبرة إنسانية تنقلك من مركزية “الأنا” إلى الاهتمام بـ”الأنت”، وفي هذا الانتقال تتولد خبرة معرفة العيش المشترك التي ينطوي عليها الحب، بما هي تسامٍ عن الوجود الشخصي، دون نزعٍ للذات، ودون انصهار في الآخر، وبما هي إمكانية محتملة لإثراء العالم بعدد لا متناهٍ من تجارب العيش والانفعالات والمواقف وتشكيل بنى لا تعد مثل العائلات والصداقات وأماكن العيش.. وهذا ما يجعل من الحب خبرة وحدثا بين شخصين مختلفين، يتفاعلان مع مواقف الحياة من وجهتي نظر مختلفتين.
إنه العيش ضمن مبدأ الاختلاف، وهو ما يصعب أن تجده في الحب الذي تسوق له برامج المواعدة والبحث عن شريك في فضاءات التكنولوجيا، والتي تشير إلى أننا إزاء ثقافة تروم تسليع الحب وتسليع الجنس وتسليع الإنسان، وتسويقهم كمواد للاستهلاك والجواب عن الحاجة دون أي مضمون عاطفي.
وبالتالي، فإن هذا الاختلاف الذي تنشره التكنولوجيا لا يعدو أن يكون إلا نشاطا تجاريا في منظومة اقتصادية تتوسل بالصورة لتحقيق غاياتها والسيطرة على الإنسان، من خلال اختزاله في حاجات مادية، وهو أبعد ما يكون عن ثقافة اختلاف تؤسس للإنسانية والحرية، بما هي مسؤولية والتزام.
وحرصا على مبدأ الاختلاف الذي نتحدث عنه هنا، من الضروري التأكيد على أنه، وإن اختلفنا حول مضمون ما تقدمه المحتويات الرقمية على اختلاف مواضيعها والسلوكات التي تعرضها والقيم التي نرى أنها تمسّ بها، فهذا لا يمنحنا الحق أبدا في قمعها أو استدعاء مقاربة أمنية للتعامل معها والمطالبة بتدخل الأمن، أو تهييج الرأي العام ضدها، دون تحاورٍ معها وتبيانٍ لمواضع الخلاف والنقاش حولها، خاصة إذا كنا أمام ثقافة جديدة علينا لا نستوعب أبعادها.
ولهذا يحتاج هذا الحدث “برنامج المواعدة العمياء”، وعبره كل المحتويات الرقمية المشكلة للقلق الاجتماعي، معالجة ودراسات اجتماعية معمقة لمحاولة فهم حركية المجتمع وتزحزحه.