الرئسيةرأي/ كرونيكسياسةشواهد على التاريخ

الراحل عبدالعزيز النويضي و إشكالية العدالة الانتقالية: تجربتي المغرب وجنوب إفريقيا

توفي مساء اليوم الخميس، القيادي الحقوقي والمحامي بهيئة الرباط، والرئيس الحالي لجمعية ترانسبارانسي المغرب، عبد العزيز النويضي، وذلك أثناء استضافته في لقاء صحفي، والذي سيوارى جثمانه اليوم الجمعة، بعد صلاة العصر بمقبرة سيد سراخ بجماعة ولد الشراط..دابا بريس بهذه المناسبة الأليمة تعيد نشر هذه الدراسة للراحل لكل غاية مفيدة...

الراحل: الباحث والحقوقي عبدالعزيز النويضي

لا يمكننا القول إن كل تجارب لجان الحقيقة والمصالحة التي تأسست لتحقيق العدالة الانتقالية قد نجحت في أداء مهمتها، فبعضها عرف الفشل، وبعضها كان مختلط النتائج، وبعضها نجح وساهم في تأمين وترسيخ التحول الديمقراطي، وستتطرق هذه الورقة لتجربتي جنوب إفريقيا والمغرب في محاولة لاستخلاص الدروس منهما.

تتميز العدالة الانتقالية عن العدالة الكلاسيكية، أي عدالة المحاكم، بلجوئها إلى مقاربة سياسية؛ حيث تتم في لحظة تاريخية محددة لم يسقط فيها النظام السابق تمامًا ولم تنتصر فيها قوى التغيير كلية. فيلجأ الأطراف لحل وسط منطقه أنه يصعب محاكمة المسؤولين عن مظالم الماضي ولاسيما عن الانتهاكات الخطيرة وواسعة النطاق لحقوق الإنسان، خاصة إذا كانوا لا يزالون ممسكين بجزء معتبر من السلطة، وبالتالي فالأهم هو تسهيل الانتقال نحو الديمقراطية بمنح هؤلاء المسؤولين فرصة للمساهمة في مسار الانتقال بعدم ملاحقتهم قضائيًا لأنهم لا يزالون يمسكون بقدر مهم من السلطة وبإمكانهم عرقلة التحول لو لم تُقدَّم لهم ضمانات بعدم المتابعة والزج بهم في السجون.

إن الأغلبية الساحقة لتجارب العدالة الانتقالية أخذت شكل تأسيس “لجان الحقيقة والمصالحة” تحت ضغط القوى الديمقراطية ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية التي تدعم ضحايا الانتهاكات وذويهم الذين تحولوا بدورهم إلى قوى ضغط في المجتمع سواء داخل منظمات حقوق الإنسان أو بجانبها.

وقد جاءت اللجان غالبًا في مرحلة من التطور السياسي إمّا إثر ضعف أو قرب سقوط أو انهيار نظام سابق (كالأنظمة العسكرية والدكتاتورية في أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا وحتى في أوروبا)، أو في مرحلة انتقال ديمقراطي أو سياسي (كحالة جنوب إفريقيا، الأرجنتين، تشيلي)، أو في إطار استمرارية النظام القديم عندما يحل وارث جديد لذلك النظام فيريد تصفية الإرث الثقيل للماضي دون أن يعيد النظر جذريًا في قواعد سير النظام القديم (حالة المغرب). وفي حالات أخرى جاء تأسيس اللجان بدفع من المجتمع الدولي في إطار عملية بناء السلام بعد حرب أهلية (السلفادور- غواتيمالا).

وتستهدف لجان الحقيقة والمصالحة غالبًا تحقيق ثلاث غايات أولية:

حماية الحقائق التاريخية من التزييف ومعرفة حقيقة الانتهاكات: لماذا حصلت؟ ما هي حدود مسؤولية الأطراف الفاعلة (رجال السياسة، أجهزة الأمن، الجيش، القضاء، الإعلام…) وكيف حصلت؟ ومن هم الضحايا؟ وما مصيرهم اليوم؟
جبر ضرر الضحايا وعائلاتهم: بالاستماع لمظلمتهم، والاعتراف بمعاناتهم، والاعتذار لهم، وتعويضهم هم وذويهم وإعادة تأهيلهم، كل ذلك تسهيلاً للمصالحة والعفو.

القيام بإصلاحات سياسية ومؤسساتية: لضمان عدم تكرار الانتهاكات وتأسيس الديمقراطية عبر إصلاح دستوري، ومن خلال إصلاح القوانين وإصلاح المنظومة الأمنية والقضائية والإعلامية في الدولة.
والحق أن لجان الحقيقة والمصالحة في العالم كثيرة ومتعددة، من أشهرها تلك التي بدأت في منتصف السبعينيات من القرن العشرين في أوغندا وتبعتها أخرى في أوائل الثمانينيات في بوليفيا مرورًا بما حدث في جنوب إفريقيا منتصف التسعينيات…، حتى صار المشهور من تلك اللجان يقارب الثمانية والعشرين لجنة في مختلف بلدان العالم.

ولا يمكننا القول: إن كل تجارب لجان الحقيقة والمصالحة ناجحة، فبعضها عرف الفشل ولم يستطع الوصول للحقيقة أو جبر ضرر الضحايا أو تأمين تحول ديمقراطي كما هو الحال في هايتي، سريلانكا، نيجيريا، لجان التحقيق في الاختفاءات بالجزائر… إلخ، وبعضها كان مختلط النتائج ما بين الفشل والنجاح كما هو الحال في المغرب، وبعضها نجح وساهم في تأمين وترسيخ التحول الديمقراطي كما حدث في جنوب إفريقيا، تشيلي، الأرجنتين.

وستتطرق هذه الورقة بشيء من التفصيل لتجربتي جنوب إفريقيا والمغرب في محاولة لاستخلاص الدروس منهما.

تجربة لجنة الحقيقة والمصالحة بجنوب إفريقيا

بعد ثلاثين سنة من الصراع المسلح 1960-1990 الذي قاده حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ضد نظام التمييز العنصري “الأبارتايد” دخلت البلاد مرحلة انتقال ديمقراطي سنة 1990 وذلك بعد وصول زعيم الأقلية البيضاء دو كليرك إلى السلطة؛ حيث رفع دو كليرك الحظر عن نشاط حزب المؤتمر الوطني وأطلق سراح زعيمه نلسون مانديلا بعد 27 سنة من السجن.

وقد أعد دو كليرك ومانديلا مخططًا انتقاليًا، ورُفِعت العقوبات الدولية عن جنوب إفريقيا، وتم تبني دستور انتقالي سنة 1993 ثم نُظِّمت انتخابات متعددة الأعراق سنة 1994 فاز بها المؤتمر الوطني الإفريقي وانتُخب مانديلا رئيسا لجنوب إفريقيا.

وخلال عام 1993 كانت قضية العفو عن مرتكبي الجرائم الخطيرة خلال الفترة الماضية من أهم نقاط المفاوضات حول الانتقال الديمقراطي، وقد توصل الطرفان إلى تسوية ترى أن العفو يمكن أن يتم بالنسبة للأعمال الإجرامية التي تمت بهدف سياسي وكان لها علاقة بنزاعات الماضي. وبعد نقاش واسع من المجتمع المدني ومؤتمرين دوليين عُقدا حول سياسات العدالة الانتقالية في الدول الأخرى للاستفادة من تجاربها صادق برلمان جنوب إفريقيا منتصف 1995 على قانون دعم الوحدة الوطنية والمصالحة الذي أسس للجنة الحقيقة والمصالحة، وقد عَيَّن الرئيس نلسون مانديلا أعضاء تلك اللجنة والبالغ عددهم 17 عضوًا في ديسمبر 1995 واُختير القس ديزموند توتو رئيسًا لها. وقد بدأت أعمالها في إبريل/نيسان سنة 1996 وأنهت أشغالها بتقديم تقريرها في أكتوبر 1998.

انقسمت لجنة الحقيقة والمصالحة إلى ثلاث لجان فرعية: لجنة انتهاكات حقوق الإنسان، ولجنة جبر الضرر وإعادة التأهيل، ولجنة العفو.

فأما لجنة انتهاكات حقوق الإنسان فقد كانت وظيفتها التحقيق في الانتهاكات التي تمت بين 1960 و1994 بتحديد هوية الضحايا، ومصيرهم (أو رفاتهم)، وطبيعة ومستوى الضرر الذي لحقهم، وما إذا كانت الانتهاكات نتيجة خطة مقصودة من طرف الدولة أو غيرها من المنظمات أو الجماعات أو الأفراد.

بينما كانت مهام لجنة جبر الضرر صياغة توصيات واقتراحات حول إعادة تأهيل الضحايا وعائلاتهم. وقد أُسس صندوق يُموَّل من ميزانية الدولة ومساهمات خاصة بهدف تقديم تعويضات مستعجلة للضحايا طبقًا لقواعد محددة يحددها رئيس الدولة. وبالنسبة للجنة العفو فإن مهمتها الأساسية هي الحرص على أن تتم طلبات العفو طبقًا للقانون؛ إذ يمكن لطالبي العفو أن يطلبوه بالنسبة لأي عمل إجرامي مرتبط بهدف سياسي اقتُرِف بين 1 مارس 1960 إلى 6 ديسمبر 1993، وقد مُدِّد هذا الأجل إلى 11 مايو 1994.

وطُلب من تلك اللجان أن تدرس الحالات التي وقعت خلال 34 عامًا ما بين 1 مارس 1960 إلى 10 مايو 1994؛ فكان أن وجدت اللجان أمامها 50000 حالة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؛ فبذلت الجهود بالتحقيقات واسعة النطاق وتحليل المعلومات وجلسات الاستماع.

جلسات الاستماع

إن الشهادات التي أُدْلِي بها أمام لجنة الانتهاكات تنقسم إلى خمسة أنواع توزعت على خمس جلسات استماع:

جلسة الاستماع للضحايا:

لقد سُمِح لبعض الضحايا بالشهادة العلنية أمام الملأ، واستمرت تلك الشهادات عادة من ثلاثة إلى خمسة أيام، وأدلى بها عدد يتراوح بين عشرين إلى ثلاثين ضحية، وتم اختيار الشهود بعناية على أساس الاعتبارات التالية:

طبيعة الانتهاك بالنسبة للجماعة أو المنطقة، تنوع المجموعات التي عانت من الانتهاك، تمثيل الضحايا من حيث الجنس والعرق والسن والموقع الجغرافي.

جلسة الاستماع الخاصة بالأحداث والوقائع:

في هذه الجلسة ركزت اللجنة على أحداث تميزت بانتهاكات جسيمة، فتحدثت الشهادات عن الإطار الذي حصلت فيه، ولم تتم الشهادة فقط من قبل الضحايا بل كذلك من المهتمين والخبراء الذين لهم خبرة بالحدث أو بالوقائع.

وتم اختيار هذه الشهادات لصفتها التمثيلية لنموذج من الانتهاكات متعلقة بوقائع شهيرة، منها: انتفاضة الطلبة في”سويتو” سنة 1976، وحرب الأيام الستة في ألكسندرا سنة 1986، ومقتل الفلاحين في ترانسفال، وكمين “حصان طروادة” سنة 1965 في الكاب الغربي، “بوكيلو توسيفن” سنة 1986، ومذبحة “بيشو” سنة 1992.

جلسة الاستماع الخاصة بالفئات الهشة:

اختصت هذه الجلسة بالاستماع إلى نوع محدد من الانتهاكات الموجهة ضد بعض الأفراد وبعض الفئات الضعيفة بهدف عدم تكرارها مستقبلاً، وعُقِدت جلسات استماع حول الأطفال والشباب والنساء وحول الخدمة العسكرية الإجبارية.

جلسة الاستماع الخاصة بالمؤسسات:

في هذه الحالة تم الاستماع إلى مؤسسات وحرف ومهن ومنظمات لتحري الدور الذي لعبته في الانتهاكات أو مقاومتها أو تسهيلها. وبهذا الصدد استمعت اللجنة إلى القطاع الصحي، والمهن القانونية، ووسائل الإعلام، وعالم الأعمال، والسجون، والمجموعات الدينية. وعملت اللجنة على صياغة توصيات إلى الرئيس حول التدابير التشريعية والإدارية والمؤسساتية اللازمة للوقاية مستقبلاً من الانتهاكات التي استمعت إليها.

جلسة الاستماع للأحزاب السياسية:

منحت اللجنة فرصة للأحزاب للإدلاء برأيها حول أسباب نزاعات الماضي، واستمعت إلى ما عسى أن يكون تورطًا منها أو على الأقل تحملها للمسؤولية في الانتهاكات التي وقعت، وغالبًا ما تم الاستماع على مرحلتين: في مرحلة أولى مُنحت الأحزاب إمكانية الشهادة مع طرح أسئلة عليها بهدف التوضيح، وفي مرحلة ثانية طرحت اللجنة أسئلة محددة على مختلف الأحزاب مبنية على دراسة مفصلة لشهادتها وعلى أدلة جُمعت من خلال التحقيق والبحث.

التحقيقات

نصَّ القانون على تكوين وحدة تحقيقات يرأسها عضو من اللجنة، وفي مرحلة أولى اهتمت الوحدة بالتحري عن الشهادات التي قدمها الضحايا، كما اهتمت بتحديد الشهود وجمع الأدلة وإعداد الأسئلة للشهادات المؤسساتية والسياسية. وبعد سنة من جلسات الاستماع تركز عمل تلك الوحدة على تحري ومقارنة الشهادات، وفي الربع الأخير من عمل اللجنة احتاجت لجنة أخرى تسمى لجنة العفو إلى دعم كبير في مجال التحقيقات لمعالجة طلبات العفو الكثيرة التي تراكمت عندها فحولت وحدة التحقيقات مواردها لمواجهة هذه الحاجة.

البحث

أنشأت اللجنة وحدة للأبحاث بهدف تحليل الحجم الضخم من المعلومات. وقد قام هذا القسم بوضع تسلسل زمني (كرونولوجيات) جهوية لانتهاكات حقوق الإنسان التي حصلت في المدة التي تغطيها ولاية اللجنة. وقد حلَّلت هذه الوحدة تقريبًا كل المعلومات التي جمعتها اللجنة سواء من الأفراد أو المؤسسات أو الأحزاب وكذلك المعلومات المقدمة إلى لجنة العفو. وقد ساعدت مجموعة من التحقيقات والاستجوابات التي أنجزها الخبراء لجنة الانتهاكات في وضع خلاصاتها، كما ساعدت لجنة العفو في مناقشاتها، وساهمت وحدة الأبحاث هذه في مساعدة اللجنة على كتابة مختلف فصول تقريرها النهائي.

العفو

طبقًا للقانون، فأحد الشروط المنصوص عليها لمنح العفو تتمثل في اعتراف طالبه بشكل تام بكل الأحداث المرتبطة بالانتهاكات. ولهذا كانت عملية العفو من أهم مصادر المعلومات حول تلك الانتهاكات، وقد مكَّن هذا الشرط من توفير أضواء كاشفة حول بواعث ومنظور المنتهكين، ومنحت إفادات مهمة حول من رخّص بتلك الانتهاكات الجسيمة. وأخذت المعلومات المتأتية شكلين:

أولاً: معلومات ضمن الطلبات المكتوبة التي قدمها المرشحون للعفو. ثانيًا: المعلومات من الشهادات المقدمة خلال جلسات الاستماع، وهذا الشكل الثاني أكثر غِنى وتفصيلاً من الأول، وأحيانًا ظهرت اختلافات بين المعلومات المكتوبة وتلك المستخلصة خلال الاستماع، وقد درس أعضاء قسم الأبحاث ووحدة التحقيق كل طلبات العفو، وصنفوها تبعًا لهوية المرشحين إلى ثلاث طوائف: المرشحين المشتغلين مع الدولة داخل النظام السابق، أولئك العاملين لقلب النظام، اليمين الأبيض.

وقد تقدم أكثر من سبعة آلاف شخص بطلب العفو، لكن مُنِح العفو فقط لمن كشف عن كل الحقيقة فيما يتعلق بتورطه في الجرائم متى كان الأمر يدخل في إطار صراع سياسي. وكان طالب العفو يتقدم أمام لجنة العفو ليدلي بشهادته ويجيب عن أسئلة اللجنة إضافة لأسئلة الضحايا ومحاميهم. وإضافة لشرط الكشف عن الحقيقة وشرط ارتباط الانتهاك بباعث سياسي فقد أخذت اللجنة بالاعتبار مبدأ التناسب بين العمل الإجرامي والباعث السياسي. فأي عمل إجرامي ارتُكِب بدوافع الانتقام الشخصي أو الربح المادي كان يُستَبعَد من العفو.

وقد أدت محاكمة بعض كبار المسؤولين والحكم عليهم بالسجن مددًا طويلة إلى زيادة الطلبات على العفو خاصة وأنه يمحو المتابعة، غير أنه بعد ذلك وعقب تبرئة وزير الدفاع مانيوس مالان و19 آخرين معه بعد محاكمتهم تراجع الإقبال على طلب العفو خاصة من كبار المسؤولين عن الانتهاكات (2) من زعماء الأبارتيد وكبار الضباط، وعند نشر لجنة الحقيقة والمصالحة لتقريرها الضخم في أكتوبر 1998 كانت لجنة العفو لم تكمل أشغالها بعد ومدَّدت أجل الطلبات إلى سنة 2000.

تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة بالمغرب

خلفية تاريخية

بُذلت جهود منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي من أجل “طي صفحة” انتهاكات حقوق الإنسان التي حصلت مند بداية الستينيات في إطار الصراع السياسي بين الملك والمعارضة اليسارية بصفة خاصة، وذلك من خلال الإفراج عن عشرات من المختفين ومئات السجناء السياسيين وسجناء الرأي سنتي 1992 و1994 تمهيدًا من الملك الحسن الثاني لإشراك المعارضة القديمة في الحكومة إعدادًا منه لانتقال العرش بسلاسة إلى ابنه محمد السادس (انتقال تم عند وفاة الملك الحسن في 23 يوليو 1999).

وفي نهاية التسعينيات تمت أيضًا بعض الإصلاحات القانونية والمؤسسية، كما تم تقديم بعض التعويضات المالية لعدد من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان وعائلاتهم بين 1999 و2003.

وقد أثارت نواقص المعالجة التي قام بها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان (الذي لم يكن مستقلاً وكان مُتحكَّمًا في عمله) منذ 1998-1999 ردود أفعال الضحايا وعائلاتهم فبادروا بتأسيس المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف سنة 2001 الذي يُعتبر بمثابة نقابة للضحايا. وبفضل نضالاته مسانَدًا بمنظمات حقوق الإنسان المغربية عُقدت مناظرة حول ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان طالب فيها المتناظرون -من بين أمور أخرى- بتأسيس لجنة مستقلة للحقيقة والمصالحة.

وقد تمت إعادة هيكلة المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وعمل نشطاء حقوقيون من داخله على إقناع الملك بتأسيس “هيئة الإنصاف والمصالحة” في نهاية 2003.

عمل الهيئة


تأسست الهيئة من 17 عضوًا، عدد منهم من مناضلي حقوق الإنسان إضافة لأشخاص مقربين من السلطة. وبدأت عملها رسميًا في بداية 2004 بعد أن قامت بوضع نظامها الأساسي الذي تضمن تدقيقًا وتفصيلاً للمهام المنوطة بها، وتعريفًا للانتهاكات موضوع اختصاصاتها، وطرق تنظيم سير أعمالها. وقد صودق على هذا النظام الأساسي بموجب ظهير ملكي (قرار ملكي) نُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 10 إبريل 2004.

وقد اشتغلت الهيئة خلال الفترة الزمنية الممتدة من سنة 1956 إلى نهاية سنة 1999 أي على فترة حكم الملك الحسن الثاني بصفة رئيسية (1961-1999).

وكُلِّفت الهيئة بـ:

التقييم الشامل لمسلسل التسوية السابق لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
إثبات نوعية وجسامة الانتهاكات السابقة.
البحث في حالات الاختفاء القسري.
الوقوف على مسؤولية الدولة وغيرها في الانتهاكات الجسيمة.
جبر ضرر الضحايا وذوي الحقوق.
جبر ضرر المجتمع.
إعداد تقرير رسمي.
تنمية سلوك الحوار، وإرساء مقومات المصالحة ودعم التحول الديمقراطي.

دامت أعمال الهيئة سنتين (بداية 2004 إلى بداية 2006) عندما استقبلها الملك في 6 يناير 2006 ، وتسلم تقريرها، وأعلن عن قبوله وكلف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بتفعيل توصياتها.

وقد استمعت الهيئة إلى مئات الشهود من الضحايا وعائلاتهم ومن مسؤولين رسميين ومناضلين سابقين. كما نظمت استماعات للضحايا وذوي حقوقهم عبر وسائل الإعلام العمومية، وفحصت الوثائق والأرشيفات وتلقت أجوبة ومعلومات من السلطات.

النتائج

أفضى عمل الهيئة المتعلق بالبحث عن الحقيقة عبر الاستماع إلى الضحايا وذويهم وإلى شهود عديدين وإلى تحريات في الوثائق وإجراء التقاطعات ودراسة الأجوبة التي تلقتها من السلطات العمومية إلى النتائج التالية:

– اكتشاف أو تدقيق أو تحديد هوية مئات الأشخاص الذين توفوا رهن الاختفاء والاحتجاز أو الاعتقال التعسفي، أو توفوا على إثر الأحداث والانتفاضات الاجتماعية الواقعة سنوات 1965 و1981 و1984 و1990 بسبب الاستعمال المفرط وغير المتناسب للقوة العمومية. وقد قد تم دفن العشرات في غياب عائلاتهم ودون تدخل من القضاء.

واعتبرت الهيئة بخصوص 66 حالة للاختفاء القسري أن من واجب الدولة متابعة البحث بغية الكشف عن مصيرها.

غير أن “حقائق” هيئة الإنصاف والمصالحة لم تقابل عددًا كبيرًا من عائلات ضحايا الاختفاء، ولا يزالون يطالبون بمعرفة الحقيقة حول ملابسات قتلهم ومكان رفاتهم والمسؤولين عن مصيرهم.

عقبات في وجه الهيئة

حسب التقرير الختامي للهيئة “فقد واجهت الهيئة أثناء الكشف عن الحقيقة معوقات، من بينها محدودية بعض الشهادات الشفوية وهشاشتها، وتم التغلب على ذلك باللجوء إلى مصادر مكتوبة، وكذا الحالة المزرية التي يوجد عليها الأرشيف الوطني والتعاون غير المتكافئ لبعض الأجهزة (الأمنية)؛ حيث قدم البعض منها أجوبة ناقصة عن ملفات عرضت عليها، كما رفض بعض المسؤولين السابقين المحالين على التقاعد المساهمة في مجهود البحث عن الحقيقة”.

وفي مجال إنصاف الضحايا وجبر الأضرار

من بين الطلبات المعروضة على الهيئة لجبر الأضرار تم فتح 16861 ملفًا تمكنت الهيئة من دراستها واتخاذ قرارات بشأنها فصدرت قرارات بالتعويض المالي لفائدة 9280 ضحية من بينهم 1895 ضحية صدرت لفائدتهم توصيات إضافية تتعلق بأشكال أخرى لجبر الضرر (الإدماج الاجتماعي، تسوية أوضاع إدارية وظيفية ومالية وغيرها)، كما تم إصدار توصيات تتعلق بأشكال أخرى لجبر الضرر غير التعويض المادي لفائدة 1499 ضحية سبق لهم أن استفادوا من تعويضات مالية بموجب مقررات صادرة عن هيئة التحكيم المستقلة للتعويض بين 1999-2003.

وقد صدرت هذه القرارات لفائدة ضحايا الاختفاء القسري أو الاعتقال التعسفي المتبوع أو غير المتبوع بمحاكمة أو المتبوع بوفاة نتيجة تنفيذ حكم قضائي بالإعدام أو الوفاة أو الإصابة بالرصاص أو الاعتقال التعسفي خلال أحداث اجتماعية أو الاغتراب الاضطراري أو الاغتصاب. وإضافة للتعويض المالي بادرت الهيئة إلى اتخاذ تدابير لتقديم خدمات صحية للضحايا، وأوصت بتأمين التغطية الصحية الإجبارية الأساسية للضحايا وذوي حقوقهم.

وفي مجال جبر الضرر الجماعي وانطلاقًا مما وقفت عليه الهيئة من تضرر بعض الجماعات والمناطق، من آثار العنف السياسي والانتهاكات التي حدثت خلالها، اقترحت الهيئة تبني ودعم مشاريع برامج للتنمية السوسيو-اقتصادية أو الثقافية لفائدة مجموعة من المدن والجماعات مع إيلاء عناية خاصة للنساء وبعض المناطق (الريف، منطقة فكيك، تازما مارت، أكدز-زكورة، الأطلس المتوسط… إلخ).

مجال الإصلاحات السياسية والمؤسساتية

لقد كان من أهم نتائج هيئة الإنصاف والمصالحة تقديم مجموعة من التوصيات التي صاغتها الهيئة انطلاقًا من توصيات هيئات حقوق الإنسان والمجتمع المدني للمطالبة بإصلاحات حتى لا يتكرر ما حصل في الماضي. ويمكن تصنيفها إلى توصيات تطالب بـ:

إصلاحات مهيكلة، تفرض نفسها كأولوية، ويتعلق الأمر بالإصلاحات الدستورية وبالانضمام إلى عدد من الاتفاقيات الدولية.
وإصلاحات تشريعية ومؤسساتية تفصِّل الإصلاحات المهيكلة وتمنحها أدوات التنفيذ، ويتعلق الأمر بإصلاح القضاء، واستكمال إصلاح مدونة الحريات العامة والمدونة الجنائية بما فيها المسطرة وأوضاع السجون، وتحسين الحكامة الأمنية بارتباطها مع إستراتيجية مناهضة الإفلات من العقاب.

أما الشق الثالث من الإصلاحات فيتعلق بجبر الضرر بالمعنى الواسع أي بما فيه الشق المتعلق باستكمال الحقيقة بما يعزز المصالحة الوطنية.

ويرتبط المحور الرابع من الإصلاحات بالتربية على ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان ضمن إطار مندمج مع الإصلاحات السابقة.


مع الأسف لم يتم التقدم في الإصلاحات السياسية والدستورية والقضائية مند تقديمها في يناير/كانون الثاني 2006 إلى أن حل الربيع العربي بالمغرب بعد 5 سنوات ممثلاً في حركة 20 فبراير 2011 التي جاءت مباشرة بعد هرب الرئيس بن علي من تونس في يناير وسقوط الرئيس المصري في فبراير 2011 حينئذ أعلن الملك في 9 مارس 2011 عن إصلاح دستوري-سياسي عميق يتضمن إقرار توازن أكبر في السلطة نحو إقرار ملكية برلمانية، و”دسترة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة”، وضمان استقلال القضاء… وفعلاً فقد تم اقتراح دستور جديد بعد مشاورات موسعة مع الأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني وتم الاستفتاء عليه في يوليو 2011.

خلاصات

تجربة جنوب إفريقيا

رغم صيتها الشائع فإن تقييم تجربة جنوب أفريقيا في العدالة الانتقالية أمر صعب؛ إذ إن النجاح الحقيقي بدأ قبل تأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة بالاتفاق على الانتقال السياسي. غير أنه بفضل تلك اللجنة عُرف جزء مهم من الحقيقة، وترسخ الانتقال الديمقراطي، وتم جبر ضرر عدد كبير من الضحايا إلى حد كبير بمجرد معرفة الحقيقة والاعتراف الجماعي والرسمي بمعاناتهم، وقد كان من عوامل نجاح لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا ما يلي:

توازن القوى في المجتمع واتفاق المعتدلين من الجانبين على حل وسط ينهي النظام القديم ويؤسس لنظام جديد مع وعد بالعفو عن جلادي الماضي شريطة مساهمتهم في كشف الحقيقة.

نجحت القوى الديمقراطية المنظمة الساعية للتغيير والإصلاح السياسي في تنظيم تحالفاتها ونزلت بثقلها لتكسب الأغلبية في المؤسسات الديمقراطية الجديدة؛ وهو الأمر الذي لا زال لم يتحقق في المغرب حتى الآن.

كانت لجنة الحقيقة والمصالحة مستقلة وليست أداة بيد السلطة.

حظيت التجربة بدعم المجتمع المدني والسياسي بخلاف المغرب حيث تخلفت النخبة الحزبية عن دعم التجربة، كما حصلت خلافات بين هيئة الإنصاف والمصالحة وجزء مهم من حركة حقوق الإنسان وحركة الضحايا.

توفرت لجنة جنوب إفريقيا على سلطات للتحقيق واستدعاء الشهود والوصول إلى المعلومات والوثائق والشهود من الضحايا والمسؤولين عن الانتهاكات الشيء الذي لم يتحقق كما ينبغي للهيئة المغربية.

توفرت التجربتان على وقت معقول وموارد مادية وبشرية كافية.

كانت تجربة جنوب إفريقيا أكثر شفافية وركزت أكثر على التواصل وقامت بتنظيم جلسات استماع عمومية أكثر عددًا وعمقًا وتلقائية، في حين لم تُنقل إلا جلستان على الهواء مباشرة في المغرب بينما سُجلت أخرى وتم اقتطاع أجزاء منها عند بثها في التلفزيون، الشيء الذي لم يُرضِ الضحايا، كما لم تقم الهيئة المغربية بجلسات استماع في منطقة الصحراء التي حصلت فيها انتهاكات فظيعة وكذا في منطقة الريف التي شعرت بدورها بالإقصاء والتمييز.

لم تتابع السلطات المغربية تنفيذ توصيات الهيئة المتعلقة بالإصلاح الدستوري والسياسي في حين لم تكن لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا بحاجة لذلك لأن الانتقال الديمقراطي كان قد حصل وقت إنشاء اللجنة، وإن ساهمت في ترسيخه بدورها، بخلاف الهيئة المغربية التي لم تكن مفتاحًا للانتقال الديمقراطي لعدم وجود إرادة سياسية لدى السلطة المركزية التي لم تنظر للتجربة كعنصر مؤسس للانتقال الديمقراطي بقدر ما نظرت إليها كتمرين يمكِّن من إغلاق بعض الملفات المزعجة دون إعادة النظر في النظام السياسي وأسلوب الحكم الذي ظل ينتج الانتهاكات ويتمسك بالوضع القائم في احتكار السلطة والثروات إلى أن حل الربيع المغربي الذي لا زال لم يعط كل ثماره بعد.

التجربة المغربية

أما فيما يتعلق بالتجربة المغربية في إظهار الحقيقة وتحقيق العدالة والمصالحة فيمكن إجمال خلاصة تلك التجربة في النقاط التالية:

إن تعبئة ودعم الأحزاب السياسية لمسلسل الإنصاف والمصالحة والمطالبة بالإصلاح السياسي لم يكن كافيًا لضعف جُل الأحزاب وعدم جرأة قياداتها التي استكان أغلبها إلى مواقع مريحة وامتيازات سواء كانت في الحكم أو في المعارضة باستثناء بعض القوى اليسارية وبعض قوى الإسلام السياسي.

أدت أحداث 11 سبتمبر 2001، وشن “الحرب على الإرهاب” والأحداث الإرهابية في المغرب في 16 مايو 2003 إلى تقوية مواقع المناهضين لانفتاح سياسي سواء من القوى السياسية المحافظة ذات المصالح التي ترعرعت خلال سنوات القمع أو من الأجهزة الأمنية التي تزايد نفوذها ورسخت مواقعها. وهكذا تزامن وأثّر اعتقال ومحاكمة المئات من المعتقلين بسبب أحداث 16 مايو وتبعات ذلك من مناخ سياسي مشحون على عمل هيئة الإنصاف والمصالحة.

لم تكن كلمة المنظمات الحقوقية موحدة ولا هي مهيأة بما يكفي من التجربة في هذا المجال لتنزل بكل ثقلها فتؤثر في عمل الهيئة بسبب ما أُشير إليه أعلاه وكذلك بسبب انخراط عدد من قيادات الحركة الحقوقية في عمل الهيئة إما كأعضاء في الهيئة أو كمستخدمين بأجر لدى الهيئة.

MEHDI BEN BARKA
الشهيد المهدي بن بركة

ولئن كان ذلك يعد مسألة إيجابية من جهة فإنه كبح من جهة أخرى استقلال عدد من الأعضاء الذين قد يطمعون في القرب أكثر من مركز السلطة كما حدَّ ذلك من قدرة الهيئة على تجاوز السقف السياسي الذي فرضته السلطة على الهيئة من قبيل عدم ذكر أسماء الجلادين، وعدم إجبار بعض الشهود الأمنيين على البوح بكل ما يعرفون، أو بتوفير الأرشيف في بعض الملفات الكبرى كملف اختطاف وقتل الزعيم السياسي اليساري المهدي بن بركة في سنة 1965.

لم يتم تنفيذ أهم توصيات الهيئة التي تتعلق بالإصلاح السياسي والدستوري بسبب عدم رغبة السلطة في ذلك، خصوصًا أمام ضعف أو عدم جرأة أغلب القيادات السياسية التي لجمت تنظيماتها وتسببت في شللها وإضعافها وهجرة مناضليها وأضعفت أحزابها.

ويبدو أنه كان ينبغي انتظار الربيع العربي وتحرُّك الشباب المغربي في الشارع إثر هرب بن علي من تونس وسقوط مبارك في مصر في يناير وفبراير2011 على التوالي ليحدث إصلاح دستوري مهم. فقد جاءت حركة 20 فبراير2011 التي دعمتها أحزاب اليسار الموجود خارج المؤسسات وجزء من الإسلام السياسي (جماعة العدل والإحسان شبه المحظورة) لخلق ميزان قوى جديد دفع السلطة إلى استباق التطورات واقتراح الإصلاح الدستوري والمؤسساتي الذي أعقبته انتخابات أوصلت المعارضة الإسلامية المعتدلة إلى المشاركة في السلطة وتقاسمها مع الملك لتنطلق معركة أخرى تتعلق اليوم بتفعيل ديمقراطي للدستور الجديد وترجمة الإصلاح الذي جاء به إلى واقع ملموس.

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات 24 يناير 2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى