الرئسيةرأي/ كرونيكمغاربية

صحافي تونسي يكتب: لماذا ضعف الإحساس بالهوية المغاربية؟

نزار بولحية كاتب وصحافي تونسي
بقلم نزار بولحية كاتب وصحافي من تونس

هل كان متوقعا مع ما عاشته وتعيشه المنطقة من صراعات ومشاحنات وتوترات ومظاهر تباغض وتدابر وعداء أن يحدث خلاف ذلك؟ قد يقول البعض. أليس من الطبيعي أن تأتي الثمرة حسب البذرة؟ كما قد يضيف آخر. لكن إلى أي حد يشعر الليبي أو التونسي أو الجزائري أو المغربي أو الموريتاني، بأنه مغاربي في المقام الأول؟ ربما لن يكون من السهل معرفة ذلك أو الحسم في هذا الاتجاه أو في ذاك.

غير أن المؤكد أن هناك فتورا وضعفا واضحا لدى شرائح واسعة من الفئات الشابة في الدول المغاربية بوجه خاص، في الإحساس بالانتماء إلى كيان آخر يبقى بالنسبة لهم مجردا ونظريا وبعيدا عن الكيانات القطرية، التي يلمسون وجودها الفعلي وتأثيرها عليهم، مقارنة على الأقل بالفئات الأكبر سنا، أو بالأجيال السابقة لهم.

أجيال تتعلم في المدارس وفي وسائل الإعلام أنها تنتمي إلى كيان إقليمي كبير هو المغرب العربي ولكنها لا ترى في سياسات وقرارات حكوماتها، ما يؤكد ذلك الانتماء

وهذا لم يحدث بشكل مفاجئ وبمحض الصدفة، بل نتيجة تراكمات تواصلت على امتداد حقب وفترات زمنية طويلة، ولا شك في أن الواقع الحالي بكل تعقيداته ومظاهر التوتر والصدام التي تميزه، يرسّخ إلى حد كبير في وجدان هؤلاء حالة القطيعة النفسية، مع أي تطلع أو حلم بمشروع مغاربي مشترك، إن أي واحد منهم يستطيع أن يرى اليوم وبوضوح تام كيف يمكن مثلا لأي فرنسي أو أوروبي وفي ظرف ثلاث ساعات تقريبا أن يصل إلى الجزائر أو المغرب، في حين أن الوقت الذي يستغرقه أي جزائري حتى يحط بالرباط، أو أي مغربي حتى يبلغ العاصمة الجزائرية قد لا يقدر، ومثلما هو مفترض بعدد أقل من ذلك بكثير من الساعات، في ظل استمرار غلق الحدود البرية بين البلدين، وحظر السلطات الجزائرية لعبور الطائرات المغربية لأجوائها.


وبغض النظر عن أي أسباب أو مبررات، قد يقدمها البعض لتلك الصورة البائسة، فإن أخطر ما قد تتركه من رواسب على المدى البعيد هي، أنها لا تعمق فقط حالة الانفصام التي يعيشها كل مغاربي بين الشعارات والوعود الوردية، والواقع المضاد لها تماما، بل تجعل المغاربة والجزائريين، المتضررين المباشرين منها، يطبعون شيئا فشيئا مع تلك الوضعية الشاذة والغريبة إلى أن تتحول وبمرور الوقت إلى واقع يتعايشون معه، ويكيفون أنماط وأساليب حياتهم معه، ولا يعتبرونه هجينا أو مرفوضا وغير مقبول.

لقد قال الطيب البكوش قبل نحو خمس سنوات من الآن، في حديث له إلى إحدى القنوات التلفزيونية التونسية، وفي سياق الرد على سؤال وجه له حول ضعف انخراط الاتحاد المغاربي في قضايا وأزمات المنطقة، إن هناك شيئا أساسيا إذا ما تم فعله فإنه سيفتح الأبواب أمام جميع الحلول، وهو الإعلان عن فتح الحدود بين الجزائر والمغرب.

وما حدث في السنوات التي تلت ذلك التصريح هو أن الوضع قد انحدر بسرعة رهيبة نحو الأسوأ، وازداد تأزما وتعقيدا عما كان عليه في السابق.

ولم يكن ذلك سوى الجزء الظاهر من المشهد العام، أو من قمة جبل الجليد مثلما يقال. فالاتحاد المغاربي الذي كان مفترضا أن تسوى داخله كل الخلافات، صار اليوم مشلولا ومغيبا تماما عن كل المسائل أو القضايا التي تشغل بال المغاربيين.

وإن سألنا أمينه العام مثلا عن سبب ذلك، فليس مستبعدا أن يجيب، وهل كنتم تتوقعون من ذلك الاتحاد أن ينجح، في الوقت الذي عهد فيه ميثاقه لقادته الخمسة فقط بالحل والربط، وظلوا على مدى ثلاثين عاما عاجزين عن عقد قمة مغاربية واحدة، بل رفضوا، منذ أكثر من خمس سنوات حتى تفويض وزراء خارجيتهم لعقد اجتماعات لتدارس أوضاعه؟ والحقيقة التي باتت واضحة وضوح الشمس هي، أن اتحاد المغرب العربي لم يستطع ومنذ ولادته أن يكون في مستوى التطلعات والآمال الواسعة التي عقدتها عليها شعوب المنطقة.

والسؤال الذي يطرح نفسه دائما هو من المسؤول عن تلك الوضعية؟ ومن الذي عطل القطار المغاربي ومنعه من الانطلاق وحال بينه وبين الوصول إلى محطته النهائية؟ هذا هو لب المشكل. فمجرد طرح مثل ذلك يعني الدخول على خط الاتهامات والاتهامات المضادة لهذه الدولة المغاربية أو لتلك، بأنها هي من عطلت العمل المغاربي وجعلته يفقد النجاعة المطلوبة.

والجدال ينحصر أساسا بين المغاربة والجزائريين، لكن ألم يخطأ كل المغاربيين حين انتظروا ولأكثر من عقدين حلول أواخر الثمانينيات حتى يعلنوا عن تأسيس اتحادهم؟ أليس واحدا من بين أسباب فشلهم اليوم هو أن أجدادهم لم يسارعوا في الستينيات، أي بمجرد حصول دولهم على استقلالها عن فرنسا وإسبانيا إلى الاتفاق على خطة واضحة لوضع قطار ذلك الكيان المغاربي المشترك، وبشكل فعلي على السكة الصحيحة؟

لقد بدأت بوادر التصدع والتشقق في البروز قبل ولادة الاتحاد المغاربي بعدة سنوات. وكان المظهر الأول لها هو تعامل المغاربيين في تلك الفترة بارتباك مع مسألة استقلال موريتانيا، لقد كان واضحا أن الدول الثلاث أي المغرب والجزائر وتونس وهي العمود الفقري لذلك الاتحاد، لم تكن تملك رؤية أو تصورا مشتركا لظهور دولة جديدة في المنطقة، ما أبقى الأمر رهين الحسابات الخاصة بكل واحدة منها.

غير أن ذلك مثّل في الأخير عاملا مفصليا وفارقا في تاريخ العلاقات بين الدول المغاربية، وكشف عن تباين واضح بين رؤيتين للمغرب العربي الكبير.

ففيما سارع الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة مثلا للاعتراف باستقلال نواكشوط «لأن المسألة أخطر، لاسيما وأنها تتعلق ببلد يشكل حسب رأينا جزءا من المغرب العربي الكبير، وأننا نحرص على أن لا يتم إبعاده عن أخوته العرب والمسلمين»، مثلما كتب للعاهل المغربي الراحل محمد الخامس، فإن الأخير الذي عارض ذلك، كان يعتبر أن تلك القضية، أي كون موريتانيا جزءاً من المغرب، «ليست قضية المغرب وحده بل قضية المغرب العربي الكبير برمته»، مثلما قال له في أحد الخطابات التي وجهها إليه.

والنتيجة هي أن الإسفين الذي دق باكرا بين العاصمتين المغربية والتونسية، ترك ندوبه على المنطقة كلها، حتى إن ظن البلدان أن الجروح قد التأمت بسرعة، وأن المياه قد عادت إلى مجاريها. لقد مثل التعارض في مواقف البلدين من تلك المسألة بالذات واحدة من الشرارات الأولى لظهور مقاربات وخيارات أقدمت عليها كل دولة من دول المغرب العربي، ليس فقط من دون التنسيق والتشاور مع الآخرين، بل من منطلق واحد لا غير هو الحرص على تحقيق مصالحها القطرية الضيقة.

وهذا ما جعل أجيالا عديدة تنشأ على مفارقة غريبة وهي، أنها فيما تتعلم في المدارس وفي وسائل الإعلام أنها تنتمي إلى كيان اقليمي كبير هو المغرب العربي فإنها لا ترى في سياسات وقرارات حكوماتها، ما يؤكد في الواقع ذلك الانتماء، أو ما يدعو للاعتزاز به. يبقى ما الذي يتعين فعله الآن؟ هل هدم كل شيء والبدء من نقطة الصفر؟ أم الإصلاح طويل النفس وزرع الأمل في الاجيال الجديدة؟ هذا هو مدار النقاش الحقيقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى