اغتيال إسماعيل هنية وتداعياته
يمثّل اغتيال هنية، الذي يحظى بشعبية واسعة، تطورًا خطيرًا في مسار الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة منذ عملية طوفان الأقصى في أكتوبر 2023.
تعرّض رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، إسماعيل هنية (1962-2024)، فجر الحادي والثلاثين من يوليوز 2024، لاستهدافٍ مباشر في مقرّ إقامته في العاصمة الإيرانية، طهران، ما أدى إلى اغتياله وأحد مرافقيه.
وجاء استهدافه بعد ساعات فقط من انتهاء مراسم تنصيب الرئيس الإيراني المنتخب، مسعود بزشكيان، والذي شارك فيه وفد من حركة حماس بقيادة هنية، كما جاء بعد ساعات أيضًا من استهداف إسرائيل للقيادي في حزب الله، فؤاد شكر، في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية، بيروت.
وفي الوقت الذي لم تعلن فيه إسرائيل صراحةً عن مسؤوليتها عن اغتيال هنية (خلافًا لاغتيال شكر)، إلا أنها تتصرف على هذا الأساس، وتتهمها حركة حماس، والسلطات الإيرانية بالوقوف خلف العملية.
احتمالات ما بعد الاغتيال
يمثّل اغتيال هنية، الذي يحظى بشعبية واسعة، تطورًا خطيرًا في مسار الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة منذ عملية طوفان الأقصى في أكتوبر 2023. وفي حين يأمل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، من خلال عملية الاغتيال، زيادة شعبيته في إسرائيل (وهو ما حصل فعلًا بعد جريمتَي الاغتيال)، وانتزاع صورة انتصار ما زال عاجزًا عن تحقيقه في الحرب المستمرة على القطاع منذ عشرة شهور، بحيث يمكنه استخدامه مبررًا لمواصلة الحرب بطريقته إلى حين فرض تصوّره لما يسمى اليوم التالي، أو ربما للمضي في اتفاق الهدنة الذي طرحه الرئيس الأميركي جو بايدن في مايو 2024، ويعارضه بعضٌ من أكثر أعضاء حكومته تطرفًا، إلا أن عملية الاغتيال تهدد في الوقت نفسه بتوسيع رقعه الصراع، إذا ما قررت إيران الرد على الهجوم الذي وقع على أراضيها وأسفر عن اغتيال أحد أبرز ضيوفها المشاركين في مراسم تنصيب رئيسها الجديد، وإذا ما قرر أيضًا حزب الله الرد بقوة غير متوقعة على اغتيال الشخصية القيادية فؤاد شكر.
1. احتمال توسع رقعة الصراع العسكري
يرتبط هذا الاحتمال بالضرورة بحسابات إيران، وردّها المتوقع على اغتيال هنية، وعلى إظهار أن لإسرائيل اليد الطولى في المنطقة. فالعالم العربي عمومًا يقف موقف المتفرج تجاه ما يمكن اعتباره عربدة إسرائيلية في المنطقة.
في ساعات الصباح الباكر التي أعقبت الإعلان عن عملية الاغتيال، اتسمت التصريحات الإيرانية بالانضباط إلى حد لافت، حيث لم يُشِر أيٌّ منها إلى ضلوع إسرائيل في العملية.
ولم تحمل التصريحات الإيرانية أيّ التزام بالرد، وبوجه خاص تلك التي صدرت عن الحرس الثوري، ووزارة الخارجية الإيرانية. لكن التوجه الإيراني بدأ يتخذ منحًى مختلفًا بعد اجتماع مجلس الأمن القومي، الذي شارك فيه قائد الحرس الثوري، وكبار قادة الجيش والداخلية والمخابرات.
ونشر حساب المرشد الأعلى، علي خامنئي، على منصة إكس، تصريحًا توعّد فيه إسرائيل بما سماه “عقابًا قاسيًا”، في حين هدّد بيان صدر عن الحرس الثوري الإيراني بأن “الرد على الكيان الصهيوني سيكون قاسيًا وموجعًا”.
وعلى الرغم من التريث الإيراني في اتهام إسرائيل بعملية الاغتيال، والذي يمكن تفسيره بمحاولة فهم ما جرى بالضبط في ساعات الفجر الأولى، فإن إيران لن يكون في مقدورها، نتيجة حجم الضربة التي وقعت على أراضيها، إلا أن تقوم بردٍّ من نوعٍ ما، قد يشبه ما قامت به ردًا على اغتيال الولايات المتحدة الأميركية لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في مطار بغداد مطلع عام 2020، واستهداف إسرائيل لقنصليتها في دمشق مطلع أبريل 2024.
تجد إيران نفسها مع بداية عهد رئيسها الجديد الذي يسعى إلى فتح باب الحوار مع الغرب، وخصوصًا مع الولايات المتحدة، أمام اختبار كبير، حيث إنها تريد أن تقوم بردٍّ ما، لكنها في الوقت نفسه لا تريد التورط في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، ولا تريد التأثير سلبيًا في فرص الحوار مع واشنطن، ولا سيما أن ذلك أحد أهداف عملية الاغتيال التي أمر بها نتنياهو في طهران. فالعمليات الأخيرة في الحديدة وفي حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية وفي طهران نفسها موجهة كلها ضد إيران التي شدد نتنياهو في خطابه أمام الكونغرس على الصراع معها، وعلى ضرورة التحالف الأميركي – الإسرائيلي ضدها.
2. احتمال التوجه نحو اتفاق
في الوقت الذي تشتد فيه الضغوط الداخلية والأميركية على نتنياهو للتوصل إلى اتفاق يتم بموجبه إطلاق سراح الرهائن ووقف الحرب التي استنفدت أغراضها في قطاع غزة، وفق منطق الإدارة الأميركية، وأيضًا في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة الضربات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله وتهدد بنشوب مواجهة أوسع، جاءت عملية اغتيال هنية في طهران وشكر في بيروت لترفع التصعيد إلى مستويات أعلى.
لكنّ رفع مستوى التصعيد قد يمثّل المرحلة التي تسبق عملية التهدئة، حيث تخشى أطراف إقليمية ودولية عديدة من فقدان السيطرة كليًا على الوضع ودخول المنطقة في مواجهة شاملة تنجرّ إليها الولايات المتحدة ودول غربية أخرى.
ويعني هذا أن الضغوط ستزداد خلال الفترة القادمة على نتنياهو للقبول “بصورة الانتصار” الذي حاول انتزاعه من خلال الهجمات التي حصلت في طهران وبيروت والتوجه إلى إبرام اتفاق يُنهي الحرب في قطاع غزة.
ويبدو أن نتنياهو فهم ذلك خلال زيارته الأخيرة واجتماعه مع مرشّحَي الحزبين الديمقراطي والجمهوري، كاميلا هاريس ودونالد ترامب[9]، اللذين أصدرا، على الرغم من مزايدتهما على بعضهما في مسألة دعم إسرائيل خلال لقاءاتهما بنتنياهو، مواقف تدعو إلى ضرورة إنهاء الحرب والتوصل إلى اتفاق لاستعادة المحتجزين الإسرائيليين.
وعلى الرغم من أن الوسيط القطري، وعلى لسان رئيس الوزراء الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، تساءل: “كيف يمكن أن تنجح مفاوضات يقوم طرفٌ بقتل من يفاوضه في الوقت ذاته؟”، وما بدت عليه العملية لحركة حماس كأنها محاولة أخيرة من نتنياهو لتوجيه ضربة نهائية إلى مسار التفاوض، وقد تكون كذلك فعلًا، فإن التوصل إلى اتفاق يبقى هو الخيار الوحيد؛ فحركة حماس ومعها بقية فصائل المقاومة وحاضنتها الشعبية لديها مصلحة حقيقية في إنهاء الحرب، في ضوء الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة منذ عشرة شهور.
وينطبق الأمر نفسه على بقية الأطراف الإقليمية والدولية التي تتوجس من اتساع نطاق المواجهة وخروج الأمور عن السيطرة. أما على المستوى الإسرائيلي، فعلى الرغم من أن نتنياهو لا يبدو مهتمًا بالتوصل إلى اتفاق حتى الآن، فإن الخيارات أمامه محدودة؛ فهو لا يبدو اليوم بعد شهور من المحاولات الفاشلة أقرب إلى تحقيق أيّ من هدفَي الحرب، وهما القضاء على حماس وإطلاق الأسرى، في الوقت الذي تتزايد فيه ضغوط الشارع والمؤسسة العسكرية التي باتت تلحّ في طلب هدنة نتيجة التعب والإنهاك المستمرَين.
انعكاسات اغتيال هنية على المشهد السياسي الفلسطيني
يمثّل ردّ فعل السلطة الفلسطينية التي نعت رئاستها هنية، باعتباره قائدًا وطنيًا كبيرًا، وإعلانها الحداد وتنكيس الأعلام، فرصةً جدّيةً للبناء على اتفاق بيجين الأخير، الذي وُقّع في 23 يوليوز 2024، والتوصل إلى وفاق وطني فلسطيني بدا متعثرًا بلوغه منذ بداية الحرب. ويعزز هذا الأمر موقف قوى شعبية وشخصيات وفصائل فلسطينية، وقوى إقليمية، ما فتئت تطالب بتشكيل قيادة فلسطينية موحدة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية باعتباره الخيار الوحيد أمام الفلسطينيين للاستثمار في التضحيات العظيمة التي قدّموها، خاصة في الشهور العشرة الأخيرة وعدم السماح بإضاعتها.
وبالنسبة إلى حماس نفسها، فإن اغتيال هنية يضع قيادتها، في الخارج خصوصًا، مجددًا في قلب النقاش العام جماهيريًا، نظرًا إلى أنها تدفع ثمن مواقفها من دمائها ودماء أبنائها، وأنها تقدّم بذلك تضحيات مثل أهل غزة المحاصرين في الداخل.
وهكذا يضرب الاحتلال بنفسه السردية التي اشتغل عليها ومنصاته الإعلامية خلال عشرة شهور من الحرب حول افتراق أجندة قيادة المقاومة في الخارج عن هموم الشارع.
خاتمة
قد تشكّل عملية اغتيال هنية في طهران نقطة تحول في الحرب الدائرة في قطاع غزة منذ نحو عشرة شهور، وقد تفتح الباب واسعًا أمام تصعيد كبير في المنطقة إذا قررت إيران (وحزب الله) الرد على الخرق الكبير الذي تعرّضت له سيادتها من جانب إسرائيل، أو قد تدفع نحو ممارسة مزيد من الضغوط الإقليمية والدولية على حكومة نتنياهو للذهاب في اتجاه قبول المقترح الذي قدّمه الرئيس بايدن لاتفاق الهدنة منعًا لسيناريو التصعيد الأول.
ويعزز هذا التوجه مستوى الضيق الذي باتت تعبّر عنه دول كثيرة حول العالم من سلوك إسرائيل التي تتصرف مثل دولة مارقة باتت تتجاوز أبسط القواعد والأعراف المتوافق عليها لخوض الصراعات والحروب بما فيها قتل الطرف الذي تخوض المفاوضات معه!
المصدر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات