الرئسيةرأي/ كرونيك

ظل “زيان”…. والأمل الرحيم

تحرير: الاعلامي والروائي خالد أخازي

أريد أن أكتب…
أنا أكتب مغمض العينين…
متوهج البصيرة….
ترشدني الفضيلة والقضية…
لا أتيه عن الوطنية..
فلسيت الوطنية أغنية على منصة…
ولا برقية…. ولا خطبة عصماء…
ولا تحية مزيفة…
فليست الوطنية احتفالات باسم الأعياد…
ولا كثير من الصخب باسم الولاء…
فالكثير من وطنيي الصخب في السجون…
بل وطنيون إلى حين…

الوطنية… عفوية… كضحكة رضيع…
الوطنية… عاقلة… نراها في عيون جنود الجبهة…
الوطنية راقية… نلمسها في قلوب الفقراء…
الوطنية… لا كرسي لها…
لأنها ليس حسابا بنكيا تصب فيه أموال الريع… ولا الفساد…
الوطنية… واللصوصية لا يجتمعان…
الوطنية والغنيمة خصمان…
قد نختلف حول مفاهيم كثيرة…
حول الشر والخير…
حول الخيانة والوطنية….
لكن نتفق على الأقل حول معنى القهر…
لأن القهر… نراه…
ونتفق حول معنى الظلم…
لأن القهر لا يحتاج نظرية ولا تأويلا…
فالمقهور… منظور وإن توارى عن الأعين كبرياء…
والظلم لا يحتاج مراجع كثيرة….
فالعدل يفضحه…
ومعرفة الاستعباد مهما تلون ولبس لبوسا متعددة… سيظل استعبادا… لا يختلف حوله أحد…
فليس الاستعباد طوقا حول رقبة…
ولا أصفادا ثقيلة حول المعصميْن..
ولا وصمة… على الحنك…
ولا صكا في يد نخاس…

إن العبودية… أن تعمل مقابل أن تعيش…
أن ترهق كل خلية فيك… مقابل الرغيف…
أن تكون إرادتك مرهونة كسكنك وطعامك…
كغدك… كروحك…
أن تكون عبدا بمسميات جديدة…
تستيقظ في الغسق…
ترمي جثتك المتعبة في حافلة…
وتمضي زمنا من القهر…
في مكان حزين…
لا ينقصه غير السوط…
لتيتشا كل وصور حقول القطن..
ثم تعود في المساء… كأنك الحي الميت…
تدس نفسك في الظلال…
تهرب من زاوية مظلمة…
تتفادى نظرات زائغة…
تبتلع كل القهر المعنوي والتهديد المحدق… وتبتسم لشبح الموت وتمضي مطرق الجبين…
تنام… ولا تحلم…

وتقتسم السرير مع امرأة يستنزف معمل أرعن كل أنوثتها…
تشعر بها تموت كل يوم بلا بوح…
وتموت أنت في عزلتك الداخلية كل يوم…
ولا شيء يتغير…
الأجرة الهزيلة نفسها…
والوسيط يتغير مع الزمن…
لكن الطوق يضيق…
يزداد ألما…
قد تشيخ في غمامة…
قد تصحو بعد الستين…
لتجد نفسك وحدك…
مريضا… اختفت الزوجة منذ سنين..
وحين تمرض… تختفي لتموت….

أريد أن أكتب
أكتب وأنا مطمئن…
أكتب وأنا سعيد… بدفق الحبر… وانبلاج ضوء الحرية في بلدي يبدد ظلمة الخوف… فأشعل غابات البؤس نارا، وأشعل كل مصابيح القلم فأكشف الفساد وأصل العار الذي في خطى العابرين فجرا نحو مصانع البؤس، حيث كل العبودية الجديدة…
العمل مقابل الطعام…
ألم يكن العبد يعمل ليطعم و ينام…؟
أريد أن أكتب…
أن أقول كل ما في قلبي…
دون خوف ولا وجل…
أريد أن أكتب فلا أخاف…


أأكتب دون أن تطاردني صورة” زيان” وهو يعبر نحو اليأس الجديد في أقصى درجات القهر…
ما أقساك يا وطني….!
ما الذي غيرك…؟
ما الذي جعلنا غرباء عن بعض…؟
آه… ! هرم الجسد… وخارت المفاصل… وتعددت الأسقام… وضعف البصر وضاقت الأنفاس…
وفي بلدي… الكلمة غدت الكلمة مخيفة……
تبعثرت خرائط القول…
تذكرت النقيب محمد زيان…مرة ثانية…
الشيخ الهرم… كيف ينام…؟
كيف يحلم…؟
كيف يتخلص من آلام جسد أنهكه المرض…

تذكرت كم كنت كنتَ رحيما يا وطني..!
فمن أين أتت كل هذه القسوة…؟
كم كنت حكيما تضحك في وجه الكل…!
فكيف تحولت صخرة صماء….؟
تذكرت حكايات عن السجون…
فسجون بلدي بلا أسرة…
وكل حكاية… نكاية…
وكل حكاية…غواية…
إلا حكايات السجون ببلدي…
فهي فوضى… وخوف وخصي للحياة …

أحلم أن أستعيد صخب قلمي…
أن أرى” النقيب زيان “ينعم بالحرية…
فلسنا بهذه القسوة…
ولستَ بهذه القسوة…
هناك سوء تفاهم…
هناك خلل معا…
في لحظة ما… ضيعنا موعدنا الجميلة…


من أغار صدرك ضدنا…؟
أحلم بقلم لا يخشى ظل وزير…
ولا تهديد مسؤول…
ولا شبح الوجل في قاع المحبرات…
أحلم بقلم لا يهادن الفساد…
أحلم بقلم… يؤمن بالوطن…
ذاك الوطني البهي الذي يتسع للجميع…
له قلب لا يكره…
وحدائق تطعم الجميع…
حتى العابرين…

لا حدائق تفتح في جنح الظلام للصوص والفاسدين..
ذاك الوطن الذي بنيناه جميعا…
فتمت قرصنته ونحن ننظر…
وعلينا أن نصمت… خوفا…
رجاء أطلقوا سراح الشيخ الهرم…
فالشيوخ أقصى أحلامهم سرير دافئ…
وفنجان قهوة…
وحفيد متعلق بالعنق…
وجريدة… ونظارات قرب…
ونزهة متعثرة الخطى في حديقة فريبة….
أريد أن ننسى…

أننا اختلفنا…
أن نتذكر البدايات الجميلة…
قبل أن نقسو حد العمى العاطفي…
لا أحد يكره وطنه…
حتى القابعون في السجون…
هناك دائما…
فرصة ثانية…
لنمضي من جديد…
بلا ضعينة…
بل أوزار تزداد ثقلا كل يوم…
والبداية…

 
رحمة… يعقبها الصفح الجميل…
والقدرة على التعايش رغم الاختلاف…
فلا أحد يكره الوطن….
وقول الحقيقة ليس جريمة….
مهما تكاتف المفسدون…
بيننا وبينهم التاريخ…
فللألم ذاكرة قوية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى