مدونة الأسرة بين قيود التقليد والآفاق الممكنة نحو الحداثة وبدون تردد
في خضم النقاش المحتدم حول التعديلات الجديدة لمدونة الأسرة، يتبدى التساؤل العميق حول مدى قدرة الدولة على السير بخطى واثقة نحو تحقيق تحول جوهري، يضع أسس دولة مدنية حديثة تُلبي تطلعات كافة أفراد المجتمع، وتحفظ أمن الأسرة بمعناه الشامل، بعيداً عن القيود الرجعية التي تحول دون بلوغ هذا الهدف.
إن تعديل المدونة ليس مجرد إجراء قانوني تقني، بل هو فرصة حقيقية لإعادة هيكلة العلاقة بين الفرد والأسرة على أسس المساواة والعدالة. إلا أنه وبعد طول انتظار للحركة الحقوقية والنسائية بالمغرب، و بعد مختلف الإجراءات التي لجأت إليها الدولة بما فيها إقدامها على فتح نقاشات وأوراش كبرى حول هذه المدونة، فإننا اليوم نجد أنفسنا أمام تعديلات مقيدة بتوازنات سياسية واجتماعية، يغلب عليها سعي لمهادنة التيارات التقليدية، ما يهدد بإفراغها من مضمونها وتحويلها إلى مجرد إصلاحات شكلية، تفتقر إلى الجرأة اللازمة لمواكبة التحولات الاجتماعية.
إن مفهوم أمن الأسرة يتجاوز الحفاظ على استمراريتها الشكلية ليشمل توفير بيئة قانونية تكفل حقوق جميع أفرادها، كباراً وصغاراً، وفي ظل غياب تشريعات صارمة لمكافحة العنف الأسري، واستمرار ممارسات من قبيل تزويج القاصرات أو التمييز في الميراث، تبقى معها الأسرة عرضة لإعادة إنتاج أنماط الظلم القديمة التي كانت ولا تزال حجر عثرة أمام التقدم الاجتماعي.
إن بلوغ إصلاح حقيقي يتطلب إرادة سياسية تتسم بالشجاعة والقدرة على مواجهة العقليات المتجذرة في الماضي، مع إعلاء المصلحة العامة فوق كل الاعتبارات، فالدولة المدنية ليست مجرد شعار يتردد، بل هي مشروع متكامل يؤسس لمجتمع قائم على سيادة القانون والعدالة، حيث تتحقق المساواة بين جميع الأفراد دون أي تمييز.
في هذا السياق، تبرز قضية إثبات النسب باعتبارها من أعقد القضايا التي يواجهها أي تعديل للمدونة، إذ تسلط الضوء على التوتر القائم بين الحاجة إلى تحديث التشريعات وبين التشبث بتفسيرات تقليدية للنصوص الدينية، يظهر هذا الإشكال بجلاء في حالات العلاقات خارج إطار الزواج، حيث يجد الأطفال والأمهات أنفسهم في مواجهة معضلات قانونية واجتماعية شائكة، تجعلهم ضحايا لإشكالات أخلاقية وقانونية لم يكونوا طرفاً في صنعها.
القوانين الحالية تربط إثبات النسب بعقد الزواج الشرعي، مما يجعل الأطفال المولودين خارجه في وضعية قانونية هشة، على الرغم من التطور العلمي والتقني الذي يوفر أدوات دقيقة وحاسمة مثل اختبارات الحمض النووي، إلا أنه غالباً ما يتم تجاهل نتائج هذه الاختبارات بحجة الالتزام بتفسيرات تُحصر النسب في إطار الزواج، ما يؤدي إلى انتهاك حقوق الطفل الأساسية، وحرمانه من حقه المشروع في معرفة والده والاستفادة من الرعاية المادية والمعنوية، فضلا على أنه بقفز على حقائق فعلية وواقعية تؤكد اتساع دائرة ما يسمى اليوم بالامهات العازبات,
هذا الوضع لا يُحمّل الأطفال وحدهم العبء، بل يثقل كاهل الأمهات اللواتي يجدن أنفسهن مضطرات لتحمل المسؤولية بمفردهن، في ظل غياب أي دعم قانوني أو اجتماعي، النتيجة الحتمية لذلك هي تعزيز دوائر الفقر والهشاشة الاجتماعية التي تُلقي بظلالها على أجيال كاملة، مما يفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.
إن الاعتماد الحصري على الزواج كشرط لإثبات النسب يتناقض مع واقع التحولات المجتمعية التي تشهدها المجتمعات الحديثة، حيث تزداد حالات العلاقات خارج إطار الزواج أو تلك التي تتم دون توثيق رسمي، وفي ظل هذه التحولات، يصبح من الضروري اعتماد مقاربة تضع مصلحة الطفل فوق أي اعتبار آخر، مع تجاوز القيود الاجتماعية التي تُقصي الطفل وتُعرّضه للتهميش.
رفض إثبات النسب ليس فقط قضية قانونية، بل هو انتهاك صارخ لحقوق الطفل التي كفلتها المواثيق الدولية، وعلى رأسها اتفاقية حقوق الطفل التي تنص بوضوح على حق كل طفل في معرفة والديه وحمايتهما له.
والتغيير في هذا المجال يتطلب شجاعة سياسية وقانونية للخروج من دائرة التفسيرات الضيقة وإقرار قوانين تضمن حقوق الأطفال وتُعلي من شأن تطورات مجالات العلم الحديثة كأداة لإثبات النسب، مثل اختبار الحمض النووي، على سبيل المثال، يمكن أن يكون أساساً عادلاً ومنصفاً لحسم هذه القضايا، بعيداً عن القيود التي تفرضها الوضعية الاجتماعية للوالدين.
وفي الاخير، التقدير السليم، أي إصلاح بما فيه مدونة الأسرة يجب أن يشمل معالجة جذرية لهذه الإشكاليات وليس فقط مجرد تعديل قانوني، بل يجب ان يكون خطوة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حقوق الإنسان، واختباراً حقيقياً لقدرة الدولة على الارتقاء إلى مستوى تطلعات مواطنيها، والتأسيس لنموذج مدني حديث يُعلي من شأن الفرد والأسرة معاً.
التغيير ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب إرادة حقيقية وجرأة لمواجهة هذه اللحظة التاريخية بكل ما تحمله من تحديات وآمال.