الجابري بين نقد الاستشراق واستهلاك أحكامه
اتجه الجابري في مشروعه لنقد العقل العربي إلى نقد المؤثرات الاستشراقية على الأعمال الفكرية في مجال الدراسات العربية والإسلامية، فيرى أنّ الدراسات الاستشراقية مصبوغة بالمركزية الأوروبية، والتي لا ترى في ثقافة الإسلام سوى أنّها الحلقة الوسطى بين اليونان والحضارة الأوروبية الحديثة، وأنّ تلك هي كلّ قيمة إسهامات العرب والمسلمين، مشيراً إلى سعي الاستشراق إلى ربط كل جزء من العلوم الإسلامية بأصول قديمة، فيربط الفلسفة الإسلامية بأفلاطون وأرسطو، والنحو العربي بأصول المنطق اليوناني، ويبحث عن أصول الشريعة الإسلامية بردّها إلى القانون الروماني، فقد أراد الاستشراق أن يخلص الثقافة الإسلامية من أصالتها، وذلك حتى تبدو ثقافة الحضارة الإسلامية مجرد هوامش على متن الثقافة الأوروبية قديماً وحديثاً.
لكنّ السؤال المهم الذي يطرح نفسه؛ هل استطاع الجابري في مشروعه الفكري أن يخلص نفسه من المؤثرات الاستشراقية التي انتقدها، أم أنّه هو نفسه تأثر في مشروعه الفكري بأحكام المستشرقين الرائجة عن الإسلام وثقافته، وعن التراث العربي الإسلامي؟
رأى الجابري أنّ العقل العربي محكوم بثلاث بنى معرفية؛ هي البيان (علوم اللغة والدين)، ثم العرفان (التصوف والتشيع)، والبرهان (إنتاج الفلاسفة بشروحهم الأرسطية)، ويدين الجابري بنية البيان؛ لأنّها رسّخت لكل عاهات العقل العربي الثلاثة؛ سلطة اللفظ على المعنى، وسلطة الأصل على الفرع، وسلطة التجويز التي تنفي العلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات، كما أنّ بنية العرفان هي بنية ظلامية استقال العقل فيها لصالح السحر والتنجيم، في حين أنّ بنية البرهان، ذات الأصول الأرسطية، هي البنية النموذج لدى الجابري التي ينبغي أن نحتذي بها، وهو ما يعني أنّ المفكر المغربي في إعلائه من شأن البرهان على البيان والعرفان؛ إنّما يكرس بصورة واضحة للمركزية الأوربية التي أرسى دعائمها الاستشراق.
وأعاد الجابري في مشروعه إنتاج أحكام المستشرقين في الكثير من المعالجات الخاصة به؛ حيث ينتهي من معظم تحليلاته إلى أنّ الشرق روحاني عرفاني، وأنّ المغرب الإسلامي عقلاني علماني، وقال بالقطيعة المعرفية بين المشرق والمغرب، ورأى أنّ عظمة المغرب تتمثل بمدى اقتراب فكره من العقلانية الغربية، بما يعني أنّ الجابري نفسه يروّج ضمنياً للمركزية الأوربية، وأعاد نفس مقولات زكي نجيب محمود، في كتابه “الشرق الفنان”، المتأثرة بالأحكام الاستشراقية؛ بأنّ الغرب عقلاني علماني، والشرق روحاني ديني.
ويرفع الجابري من شأن ابن حزم الظاهري في موقفه من علم أصول الفقه، والذي رفض القياس الأصولي لهذا العلم، وسعى إلى تأسيس علم أصول الفقه على آليات المنطق اليوناني، ولهذا ذهب الجابري إلى أنّ عظمة ابن حزم أنه أراد تأسيس البيان على البرهان، بما يعني أنّه أراد تأسيس علم أصول الفقه على المنطق اليوناني البرهاني، ورفض الاعتداد بالمنهجية الإسلامية الخالصة، وهي (القياس الأصولي) في علم أصول الفقه، والتي تعبّر عن الخصوصية الإسلامية، ومن ثم تتحدد قيمة ابن حزم باستهلاكه للمعقول اليوناني في المنطق (البرهان)، وهو ما يعني أنّ نظرة الجابري للعلماء المسلمين ليس بإنتاجهم الثقافي الأصيل، لكن بقدر تأثرهم بأرسطو، لكنه تغاضى عن الطابع الإقصائي لأعمال لابن حزم في مجال أصول الدين؛ حيث قام بتكفير معظم أعلام المعتزلة والأشاعرة في كتابه “الفصل في الأهواء والملل والنحل“.
ومن المفارقات الغريبة؛ أنّ الغزالي الذي يدينه الجابري في كتاباته ويتهمه بأنه عرفاني، كان ينظر إلى المنطق على أنّه آلة حيادية ينبغي أن نستفيد منها، وألّف العديد من الكتب والرسائل في المنطق، مثل: “معيار العلم”، و”القسطاس المستقيم”، و”ميزان الاعتدال”، كما أبان في مقدمة كتابه “المستصفى في علم الأصول” أهمية المنطق اليوناني في تأسيس النظر في علم أصول الفقه، ولكن مشكلة الغزالي لديه أنّه روّج للعرفان في منظومته الفكرية، وهكذا كان الجابري صاحب نظرة انتقائية للتراث، يتخفى وراءها تعصّبه الواضح للمغرب على حساب المشرق، وذلك لقوله بالقطعية المعرفية بين إنتاج المسلمين في المشرق، وإنتاجهم في المغرب، وذلك لصالح تفضيل فكر المغرب الإسلامي على فكر المشرق.
وقام الجابري في مشروعه باتهام الفكر المشرقي بأنه عرفاني وظلامي؛ لأنّه خلط شروحه للفلسفة اليونانية بالسيمياء والعرفان، وأنه رأى ثقافة اليونان عبر الهرمسية، ولهذا دان الجابري المنتج الفكري لابن سينا والغزالي؛ لأنها، كما يقول، منتجات عرفانية، وبالمقابل رفع من قيمة ابن رشد لأنّه كان الشارح الأمين لأرسطو، وأنه ابتعد في شروحه عن المؤثرات العرفانية المشرقية، فكانت قيمة ابن رشد بمدى إخلاصه للثقافة الأرسطية اليونانية في شروحه على أعمال أرسطو.
وأعاد الجابري إنتاج مقولات المستشرقين في تمجيد ابن رشد، وذلك حين ذهب إلى أنّ صاحب “تهافت التهافت” قد فصل بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية، وهو ما أسهم في تأصيل العلمانية في أوروبا، ولهذا كان تأثيره الكبير في أوروبا عبر الرشدية اللاتينية، فقيمة ابن رشد تتحدد بما أسهم فيه من تأثير في الآخر الأوروبي، فلا ينظر إلي ابن رشد باعتباره ربيب الثقافة العربية الإسلامية؛ بل باعتباره الشارح الأمين لأرسطو الذي نقل شروحه إليها، ولعل هذا ما روّج له أرنست رينان، في كتابه “ابن رشد والرشدية”، وأعاد فرح أنطوان إنتاجه في كتابه “فلسفة ابن رشد”، ولم يستطع الجابري أن يتخلص من تلك الرؤية؛ بل كان أسير الرؤية الاستشراقية الخالصة التي تروّج للمركزية الغربية.
لكن رغم تأثر الجابري في نقده للعقل العربي بالرؤية الاستشراقية حول العقل العربي، فستظل أعماله من القيمة بمكان أنّها حركّت المياه الراكدة إلى قراءة تراثنا العربي، وكان ما تميز به الجابري دون غيره أن اتجه إلى نقد العقل؛ أي نقد السلاح الذي أنتج هذا التراث؛ لذا كانت عناية العديد من المفكرين العرب بالردّ عليه، من أمثال: جورج طرابيشي، والطيب تيزيني، ويحيى محمد، وعلي حرب، وهذا دليل على مدى حيوية هذا المشروع ومدى إثارته للجدل المتجدد.
المقال منشور في “حفريات”