الرئسيةرأي/ كرونيكميديا وإعلام

بين مجاهد والمهداوي.. حين تُوظَّف الأخلاقيات لتصفية الحسابات

بقلم: فؤاد السعدي

لا يحتاج القارئ إلى كثير من التدقيق ليكتشف أن مقال يونس مجاهد تحت عنوان “محاكم الشرف في الصحافة والحرف“ ليس إلا مرافعة دفاعية عن اللجنة المؤقتة، ومحاولة لإضفاء المشروعية على استدعاء الصحافي حميد المهداوي في سياق يفتقر إلى الحد الأدنى من الحياد.

فالرجل لم ينطلق من قراءة نقدية موضوعية لحالة الصحافة في المغرب، بل اختار أسلوبًا سلطويًا مغلفًا بلغة أكاديمية تستحضر “إميل دوركايم” و”بيير بورديو”، لكنها تتجاهل الوقائع الصادمة التي تكشف الوجه الحقيقي لهذه اللجنة التي نصبت نفسها وصية على المهنة.

غير أن ما يثير الانتباه في مقال مجاهد هو تلك الانتقائية الفجة التي تعكس عقلية تستخدم الأخلاقيات المهنية ليس كمبدأ، بل كأداة لتصفية الحسابات من خلال طرح يسعى إلى إضفاء هالة من القداسة على اللجنة المؤقتة، في وقت يعجز فيه عن تقديم أي تفسير مقنع لصمتها المطبق تجاه انتهاكات صارخة ارتكبها صحافيون آخرون، معروفون بولائهم لمراكز النفوذ.

وحين يتعلق الأمر بصحافي مثل المهداوي، تتحول اللجنة فجأة إلى جهاز رقابي صارم، يوجه تهمًا أخلاقية لمجرد أن الرجل تحدى السقف الذي يُراد للصحافة المغربية أن تبقى تحته.

لم يكن استدعاء المهداوي مجرد إجراء إداري روتيني، بل هو رسالة واضحة مفادها أن الصحافي الذي يخرج عن الخط سيتم تطويقه بأي وسيلة.

ولا أدل على ذلك أن الرجل ظل لعدة أشهر محرومًا من بطاقة الصحافة، بحجة أنها “قيد المعالجة”، بينما تم استدعاؤه في ظرف أسبوع واحد بناءً على شكاية ضد مجهولين، ليبقى هذا التناقض وحده كافٍ لكشف أن القضية ليست مسألة تنظيم مهني، بل استهداف ممنهج.

والأكثر غرابة أن استدعاءه تم بشكل يخالف المادة 95 من قانون الصحافة، التي تنص على أن المسؤولية القانونية تقع أولًا على مدير النشر، وليس على الصحافي نفسه، إلا إذا كان المدير غير معروف. ومع ذلك، تم القفز على هذا المبدأ القانوني، وكأن الهدف لم يكن تطبيق القانون، بل إخضاع المهداوي لمساءلة تأديبية استثنائية.

فإذا كانت اللجنة المؤقتة حريصة فعلًا على “أخلاقيات المهنة”، فلماذا لم نرَ لها أي موقف تجاه إعلاميين معروفين بتجاوزاتهم المهنية والأخلاقية؟ لماذا لم تحرك ساكنًا عندما نشر إدريس شحتان صورة فاضحة زُعم أنها تخص وزيرًا سابقًا ونقيبًا، في خرق سافر لأبسط قواعد مهنة الصحافة؟ لماذا لم تتدخل حينما وصفت بعض المنابر صحافيين وناشطين بأوصاف نابية، أو حينما تمت الإشادة بالسكر العلني والممارسات المنافية للقانون؟ لماذا لم تتحرك اللجنة حينما تم استهداف صحافيين مستقلين بحملات تشهير ممنهجة؟ هل تُطبق أخلاقيات الصحافة بانتقائية، بحيث يكون الصحافي في مأمن طالما أنه لا يزعج دوائر معينة؟

في مقاله، يستشهد مجاهد بعالم الاجتماع “إميل دوركايم” ليبرر ضرورة وجود هيئات تنظيمية للصحافة، لكنه يتجاهل أن “دوركايم” لم يكن يتحدث عن هيئات تُستخدم لتكميم الأفواه، بل عن تنظيمات مهنية تحظى بالشرعية الأخلاقية بسبب نزاهتها واستقلالها.

والمفارقة أن “اللجنة المؤقتة”، بدل أن تكون ضامنًا لحرية الصحافة، تحولت إلى أداة رقابية تمارس دورًا انتقائيًا في المحاسبة، مما يجعلها فاقدة لمصداقيتها.

أما استحضار “بيير بورديو” للحديث عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية للصحافيين، فهو استشهاد يريد به مجاهد تبرير ما لا يُبرر. “فبورديو” كان يتحدث عن ضرورة ضمان استقلال الصحافيين ماديًا ومهنيًا حتى يتمكنوا من الالتزام بأخلاقيات المهنة، وهنا يأتي السؤال، ماذا قدمت اللجنة المؤقتة في هذا الاتجاه؟ هل عملت على تحسين أوضاع الصحافيين؟ أم أنها اكتفت بممارسة سلطتها على الحلقة الأضعف، بينما تترك الصحافة المحظوظة تفعل ما تشاء دون مساءلة؟

يحاول مجاهد أن يصور لجنة الصحافة المؤقتة وكأنها نسخة حديثة من “محاكم الشرف” التي عرفتها بعض الأنظمة الديمقراطية، لكنه يتجاهل أن هذه المحاكم، حيثما وُجدت، كانت مستقلة فعلًا عن السلطة، ولم تكن أبدًا أداة سياسية لتصفية الحسابات.

ففي فرنسا، على سبيل المثال، كانت هناك آليات مهنية مستقلة تفرض معايير صارمة على الجميع، وليس فقط على الصحافيين غير المرضي عنهم.

أما في بلدنا، فإن ما نراه اليوم ليس تنظيمًا ذاتيًا حقيقيًا، بل محاولة لصناعة “صحافة الطاعة”، التي تلتزم بالسقف المرسوم لها، بينما يتم التضييق على كل صوت يخرج عن هذا النسق.

إن أخطر ما في طرح مجاهد هو أنه يحاول فرض فكرة أن الاعتراض على قرارات المجلس نوع من التمرد غير المشروع، وكأنه يريد أن يقول، “لا حق لكم في الاحتجاج، لأننا نحن أهل الاختصاص”، لكن الحقيقة أن الجسم الصحافي ليس قطيعًا، وأن أي هيئة مهنية، كي تحظى بالاحترام، يجب أن تقدم نموذجًا في الاستقلالية والحياد، لا أن تكون مجرد أداة لإخراس بعض الأصوات والتغطية على أخرى.

إن ما يعيشه المشهد الصحافي الوطني اليوم ليس سوى انعكاس لمحاولة إعادة ضبط الحقل الإعلامي وفق توازنات جديدة، حيث يتم تسخير بعض المؤسسات لتأديب الصحافيين بدل حمايتهم. وعندما يتم تحويل أخلاقيات الصحافة إلى أداة إقصائية، فإن الحديث عن التنظيم الذاتي يصبح مجرد وهم.

لقد ناضلت أجيال من الصحافيين المغاربة من أجل تحرير الصحافة من قبضة السلطة، لكن المفارقة اليوم أن بعض الذين كانوا جزءًا من هذا النضال باتوا يلعبون دورًا عكسيًا، يسعون إلى فرض قيود جديدة باسم التنظيم. وهذا بالتأكيد هو جوهر الإشكال، وهنا نطرح السؤال، هل نريد صحافة حرة فعلًا، أم مجرد صحافة مُنظمة تخدم مصالح معينة؟

الواقع أن الصحافة التي لا تكون عينًا ناقدة على السلطة، تصبح مجرد امتداد لها، ولعل هذه هي الحقيقة التي يبدو أن يونس مجاهد يريد طمسها وسط استدعاءاته الفلسفية ومحاولاته لصناعة خطاب أخلاقي يفتقر إلى أي مضمون حقيقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى