الرئسيةتكنولوجياسياسة

تحول الفضاء الرقمي إلى ساحة المعركة : حرب الظلال بين المغرب والجزائر تهدد سيادة البيانات  

تحرير: جيهان مشكور

في تصعيد رقمي غير مسبوق، اندلع فصل جديد من المواجهة السيبرانية بين المغرب والجزائر، بعد أن شنّت مجموعة من القراصنة المغاربة هجوماً واسع النطاق استهدف المؤسسة العامة للبريد والاتصالات في الجزائر، وهي جهة تعتبر من بين الأعمدة الرقمية الحساسة في البلاد، نفذت العملية، في ظرف زمني لم يتجاوز 24 ساعة، و أسفرت عن تسريب أكثر من 13 جيغابايت من البيانات المصنفة، تضمنت معلومات شخصية، أوامر تحويل مالية، مراسلات إدارية، ووثائق صادرة عن وزارة العمل الجزائرية.

جاء هذا الاختراق كردّ واضح ومباشر على الهجوم الذي استهدف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة التشغيل في المغرب، والذي نُسب إلى هاكر جزائري وفق ما تداولته منصات إلكترونية.

ما يميز هذا الرد المغربي السيبراني هو تبنيه العلني من قبل مجموعة تطلق على نفسها أسماء متعددة من بينها “Phantom Atlas” و”القوات السيبرانية المغربية”، والتي أعلنت عبر قناة تيليغرام أنها اختارت التوقيت والهدف بعناية، واعتبرت أن العملية ليست مجرد فعل اختراق بل رسالة استراتيجية ضمن صراع باتت له أبعاد سياسية واضحة، وأكد بيان المجموعة، الذي صدر بعدة لغات، أن الهجوم جاء ليضع حدودًا جديدة لما وصفوه بـ”الاستفزازات السيبرانية” الجزائرية، ملوحين بإمكانية شن عمليات أكبر إذا تكررت مثل هذه الهجمات ضد المؤسسات المغربية، ومشددين على أن قضية الصحراء المغربية ليست موضوعاً للنقاش وإنما موقف مبدئي لا رجعة فيه.

دفعت الأحداث الأخيرة العديد من الخبراء إلى إطلاق ناقوس الخطر حول تداعيات هذه المواجهة الرقمية المتصاعدة، ومن بينهم الخبير المعروف باسم Saxx، الذي أشار عبر منصة “إكس” إلى أن تسريب هذه الكمية الهائلة من البيانات الحساسة يكشف هشاشة هيكلية واضحة في الأنظمة المعلوماتية الجزائرية، ويفضح اعتماد مؤسساتها على ممارسات بدائية في إدارة الأمن السيبراني، منها الإبقاء على بيانات دخول غير مؤمنة تخص موظفين يمكن من خلالها تنفيذ اختراق شامل.

اللافت في هذا التصعيد، أن الردود الرسمية تكاد تكون غائبة، فباستثناء بيان مقتضب من اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي في المغرب، التزمت باقي المؤسسات، سواء في الرباط أو الجزائر، الصمت، تاركة الساحة لفاعلين رقميين غير رسميين يزدادون احترافية وتنظيماً مع مرور الوقت، ويعكس هذا الغياب الرسمي تحولاً نوعياً في طبيعة الصراع، حيث لم يعد من الممكن تصنيفه ضمن الحروب الرقمية “الهامشية”، بل بات واقعاً يفرض إعادة التفكير في المفاهيم التقليدية للأمن القومي والسيادة.

في هذا السياق، يرى الخبير في الأمن السيبراني محمد العمراني، المحاضر في معهد الدراسات العليا في الأمن الرقمي بباريس، أن هذه التطورات تشكل تحولاً استراتيجياً في بنية الصراع الجيوسياسي في المنطقة المغاربية، فوفقاً لتصريح له، يعتبر العمراني أن ما يحدث اليوم ليس مجرد حرب هاكرز بل شكل من أشكال الصراع غير المتماثل، تقوده جهات غير حكومية تملك قدرات تقنية متقدمة وتتمتع بوعي سياسي واضح، ما يجعل الفضاء الرقمي ساحة موازية للمعارك الدبلوماسية والسياسية.

و من بين أبرز ما كشفه العمراني، أن حجم البيانات المسربة لا يجب اختزاله في الرقم فقط، بل في ما تحتويه هذه الملفات من معطيات شديدة الحساسية كأرقام بطاقات تعريف وطنية، أوامر مالية، وتفاصيل عن البنية الداخلية لمؤسسات عمومية، وهي معلومات يمكن استغلالها في حملات تجسس وابتزاز وتوجيه للرأي العام، خصوصاً مع تطور أدوات الذكاء الاصطناعي القائمة على قواعد بيانات واقعية.

وفق العمراني ما يزيد من تعقيد الوضع، هو غياب أي إطار إقليمي للتعاون في مواجهة هذه التهديدات، سواء على مستوى رصدها أو التصدي لها، فالقوانين المحلية، رغم تطورها النسبي، تبقى قاصرة أمام تعدد الفاعلين الرقميين وتداخل الهويات الإلكترونية وتعقيدات التتبع القضائي عبر الحدود، وهو ما يجعل من منطقة المغرب الكبير بيئة هشّة أمام أي تصعيد رقمي ممنهج.

هذا النمط من الصراعات الهجينة، الذي يتقاطع فيه السياسي بالتقني، بات يفرض على الحكومات إعادة تعريف مفهوم الأمن القومي ليشمل البنية التحتية الرقمية، وتحصين مؤسسات الدولة بنفس الجدية التي تُحصّن بها حدودها العسكرية، كما أن إشراك القطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية ومراكز الأبحاث لم يعد خياراً بل ضرورة ملحة لوضع استراتيجيات مرنة وفعالة في مواجهة تهديدات من هذا النوع.

وفي تحذير شديد اللهجة، ختم العمراني تصريحه بالتنبيه إلى أن استمرار هذه العمليات دون ضوابط واضحة قد يفتح الباب أمام استخدام الهجمات السيبرانية كأدوات للتأثير على الانتخابات، أو لفرض توجهات سياسية، أو حتى لإحداث شلل في مؤسسات الدولة، حينها، لن يكون الصراع مجرد مواجهة بين قراصنة، بل أزمة سيادة رقمية شاملة، تهدد ليس فقط أمن البيانات، بل استقرار الكيانات السياسية نفسها في منطقة تسير على حافة هاوية رقمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى