الرئسيةسياسة

المغرب المنسي تحت عدسة الأمم المتحدة: الهشاشة في الأرياف تفضح فشل السياسات العمومية في إنصاف الهامش

تحرير: جيهان مشكور

وسط الخطابات الرسمية التي لا تكف عن التباهي بالتنمية المتقدمة والبنية التحتية المتطورة في كبريات المدن، تكشف تقارير أممية عن وجه آخر للمغرب، وجه قاسٍ ومهمّش ومغبون، وجه المغرب العميق الذي يُختزل في القرى النائية والمناطق الجبلية المعزولة، حيث تظل أبسط شروط العيش الكريم حلمًا بعيد المنال.

ففي وقت تتزين فيه الرباط والدار البيضاء ومدن الشمال بواجهات عصرية ومشاريع ضخمة، يعاني ملايين المغاربة في القرى من غياب الماء الصالح للشرب، وافتقار للصرف الصحي، وانعدام مرافق النظافة، مما يكرس تباينًا صارخًا بين المركز والهامش، وبين مغرب الظل ومغرب الأضواء.

هذا الواقع المقلق لم يأتِ من فراغ، بل وثقه بالتفصيل تقرير صادر عن المكتب الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، بشراكة مع لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، تحت عنوان “التقدم المحرز نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة: لمحة إقليمية حول النوع الاجتماعي في الدول العربية لعام 2024”.

سلط التقرير الصادم، رغم طابعه الإقليمي، الضوء عن وضع المغرب في مجال الخدمات الأساسية بالعالم القروي، حيث تبرز الأرقام هوة سحيقة تفصل سكان الأرياف عن ركب التنمية، وتؤكد استمرار منطق الإقصاء المجالي الذي يطبع السياسات العمومية.

فوفقًا للمعطيات التي قدمها التقرير، فإن 46.7% فقط من سكان المناطق الريفية بالمغرب يستفيدون من خدمات مياه شرب آمنة ومدارة بشكل مستدام، وهي من بين أدنى النسب المسجلة عربيًا، والأدهى أن هذه النسبة تضع المغرب في مؤخرة الترتيب، متأخرًا عن فلسطين (76.4%) التي تعيش تحت الاحتلال، وتونس (67.1%) التي تواجه تحديات اقتصادية متفاقمة، وحتى الجزائر (63.1%) التي تشترك مع المغرب في خصائص جغرافية وسوسيو-اقتصادية، أما المتوسط الإقليمي، فقد بلغ 67.6%، وهو ما يضع المغرب خارج المسار الصحيح لتحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة المرتبط بتوفير الماء والصرف الصحي للجميع بحلول عام 2030.

المفارقة المؤلمة أن غياب العدالة المجالية لا يتوقف عند ضعف ولوج سكان القرى إلى الماء، بل يتفاقم مع الصمت المريب حول خدمات الصرف الصحي، إذ لم تُدرج أي بيانات رسمية عن المغرب ضمن هذا المحور، ومع ذلك، يشير التقرير إلى أن النسبة العامة في العالم العربي تبلغ 52.3%، مع تسجيل نسب مرتفعة في دول مثل الإمارات (98.5%) ومصر (63.1%) وتونس (62.9%)، فيما وصلت فلسطين إلى 54.7%.

توضح هذه الأرقام بما لا يدع مجالًا للشك أن المغرب القروي، ذاك المغرب المنسي، يعيش تحت خط الكرامة الصحية، في وقت يستمر فيه المركز في جني ثمار التوسع العمراني والاستثمارات الكبرى.

ويزداد المشهد قتامة حين ننتقل إلى مؤشر ثالث يتعلّق بتوفر مرافق غسل اليدين الأساسية، والذي لم يشمل المغرب بدوره بسبب غياب البيانات، غير أن المعطيات الإقليمية تبرز تفاوتًا صارخًا يعمق الفجوة بين المناطق، إذ بلغت النسبة 95.5% في فلسطين، و95.1% في العراق، و87.7% في مصر، في حين لم تتجاوز 67.3% في تونس، و74.8% في الجزائر، بينما انهارت في دول مثل موريتانيا والصومال. وبلغ المتوسط الإقليمي 69.3%، في مؤشر يوصف بأنه “قيد التنفيذ”، أي أن الجهود قائمة لكنها دون المستوى المطلوب، وهو ما ينطبق على المغرب الذي يظل غيابه عن هذا المحور دليلاً على ضعف الرصد والتقييم، وغياب استراتيجية متكاملة تُنصف الهامش.

ما تبرزه هذه الأرقام ليس مجرد تأخر في مؤشرات تقنية، بل صورة متكاملة عن هشاشة المغرب العميق، ذاك الفضاء الذي يعيش فيه ملايين المواطنين في عزلة تامة عن التنمية. فبينما تنعم مدن كبرى بخدمات متقدمة وتُخصص لها ميزانيات ضخمة، يعاني سكان الجبال والبوادي من أجل جلب دلو ماء نظيف، أو البحث عن مرحاض لائق، أو حتى حنفية لغسل الأيدي، ما إنها يعكس فشلاً عميقًا في الإنصاف المجالي، وتُحيل إلى منطق تنموي يراكم الامتيازات في المركز، ويترك الهامش يصارع من أجل البقاء.

إن أراد المغرب حقًا الوفاء بالتزاماته الدولية، لا سيما تلك المتعلقة بأهداف التنمية المستدامة، مطالب أولًا بالاعتراف بهذا التفاوت البنيوي، ثم باتخاذ خطوات جادة لإعادة الاعتبار للمناطق المنسية، ليس من باب الإحسان أو الشفقة، بل من منطلق الحق في الكرامة والعدالة. فتنمية المغرب لا يمكن أن تتحقق ببناء الطرق والموانئ وحدها، ولا بقيادة حملات رقمية لامعة، بل تبدأ من هناك، من الجبال النائية، من القرى التي تفتقر إلى الماء والمرافق الصحية، من النساء اللواتي يحملن القنينات يوميًا، ومن الأطفال الذين يدرسون دون مرافق صحية.

إنه زمن إعادة الاعتبار للمغرب العميق، لا كرقم هامشي في تقارير التنمية، بل كأولوية في قلب السياسات العمومية، وإلا نحن في ظل سياسة “النخوة على الخوا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى