الرئسيةرأي/ كرونيك

الإبادة جارية ليل نهار، والإنسانية في خطر..هل تكتب وماذا تكتب؟

بقلم مصطفى مفتاح

وحرب الإبادة مستعِرةٌ بلا هوادة، على مدار الساعة، ماذا بوسعكَ أن تفعلَ أو تقولْ، بعد أن نالَ ضميرُكَ قِسْطَهُ من النّوْمِ وتناوَلَ جسمُكَ ما قد يكفيه من الغداءِ في الفطور؟ وحربُ الإبادة ومخططُ التهجير والإخلاء ماضون، ماذا سيُرضي حِسّكَ وعواطِفَكَ وتضامُنَكَ المبدئي من تعابيرَ وتراكيبَ تَنْشُدُ الميداليةَ الذهبيةَ في مسابقات البلاغة؟

وتلومُني على حساسِيتي المُفْرِطَةَ وتمدَحُ حِسّيَ الإنسانيَّ العميقَ المتجذِّرَ في الأعماق، وتقرأُ كلامي بعُجالةٍ واختصارٍ وتَمُرُّ لأمورَ مستعْجلةٍ أخرى. فأُصابُ بالحَيْرَةِ والتردُّدِ لأنني والعمرُ ماضٍ في خريفِه لم أعد أقوى إلاّ على تدبيجِ الكلامِ وتقطيبِ الحاجِبَيْنِ والتّركيزِ، عَلّني أَجِدُ زاويةً مستَجَدّةً لتناولِ الموضوعِ، والأطفالُ والإسعافُ والصحفيونَ والمُصَوِّراتُ والعائِلاتُ والخِيامُ تستقبلُ القنابلَ والنارَ على مدارِ الساعة.

أتساءلُ هل ما يجري في غزّةَ وفلسطين، حربٌ دينية؟ ربما لدى عدد من المستعمرين المنتمين للأحزاب المتطرفة أو غير المتطرفة. لكن التشجيعات والبنيات التحتية التي يستفيدون منها، محرك أكثر إقناعاً على الأرجح.

أو أنّ ما يجري حربٌ عصريةٌ بين حضارةٍ غربية يونانية-رومانية-مسيحية-يهودية مقابل “همجية” إسلاميةٍ أو شرقيةٍ أو سلافيةٍ أو تنينية آسيوية، تحاصر الأولى؟ من المحتمل أن يكون الأمر كذلك بالنسبة لليمين المتطرف.

الأقرب للحقيقة هو، أن الحرب الجارية منذ عشرينيات القرن الماضي بدءا ب”وعد بلفور”، ثم هجومات عصابات “الهاغاناه”[ Haganah : الهاجاناه هي منظمة عسكرية صهيونية تأسست في القدس عام 1920 كجزء من الجهود الاستيطانية الصهيونية في فلسطين] و”الايرغون”[ Irgoun : منظمة عسكرية إرهابية صهيونية، نشأت إبان الانتداب البريطاني، واستمرت حتى نكبة ، 1948 ] ثم “نكبة 1947” مرورا بالهجوم الثلاثي وحرب 1967، حتى اكتشاف الغاز في شواطئ غزة ومصر ولبنان، هي حلقات من المشروع الاستعماري الغربي المتجدد والرأسمالي الذي يستهدف الاستحواذ على الموارد الطاقية وتأمين الطرق التجارية العالمية البرية والبحرية وشبكات التوريد، أي بكل بساطة، ضمان استمرار التراكم الرأسمالي و ضخ الأرباح واستمرار والتقاء كل مراحل التراكم التي عرفها تاريخ نمط الإنتاج هذا منذ “التراكم البدائي” والرق والاستعمار والمنافسة والحروب الرأسمالية وإلى “نهاية العالم”.

والخطير فيما يجري هو تقاطع آليات واستراتيجيات تنتمي تاريخيا لعصور مختلفة من الرأسمالية، تتراكب لتُعلِنَها، هجوماً شاملاً على الكوكب وكل شعوب الأرض، من شغيلة ومستضعفي دول الشمال إلى المهاجرين وشعوب الجنوب والمنتمين للغات وثقافات أخرى، تلتقي وتكتمل في حرب “إيديولوجية وإعلامية” شرسة، تستعمل أحدث الصناعات والتقنيات في مجال الإعلام وتبادل المعلومات والإلكترونيات واستراتيجيات مستجدة مثل الإذهال[ Effet de sidération] و الحَجْب[ invisibilisation] والتجريد من البشرية[ déshumanisation]، مع “حساءٍ” بلاغي يمتح من الشعبوية والتشكيك المنهجي في العلم والعقل و الفردانية العدمية[ libertarisme] والتبشير[ messianisme] وخطط “الفوضى الخلاقة” وأساليب العصابات والمافيات و تحريف التاريخ.

وقد انتبه العديد من المتابعين للروابط المتينة بين آلة الحرب الإسرائيلية والأمريكية وكل التحولات التي تطرأ على بنية الرأسمال العالمي في بنياته التكنولوجية والمالية والحربية، وما يفتضح أمره اليوم من النفوذ المتعاظم لممثلي هذه البنيات في الإدارة الأمريكية الجديدة وهجومها على كل ما يتحرك داخليا وفي العالم وسفور مصالحها الهيمنية للتحكم في فلسطين و المنطقة و تهديد العالم و مستضعفيه في الجنوب والشرق والغرب والشمال والانتقام من كل الانتصارات التي حققتها شعوب الجنوب على الاستعمار والميز العنصري والتبعية وكل المكاسب التي حققتها شعوب الشمال والجنوب في القرن العشرين.

ولو أن المأساة الدائرة كل يومٍ أمام أنظار البشر كلهم، ومشاهد الإبادة ليس فقط للفلسطينيين بل أيضا، وربما، أكثر للضمير الإنساني وللقانون والأخلاق، لا تسمح بأي نوعٍ من السخرية، ولو في صيغها الأكثر مرارةً، سأغامر بالتذكير بأن الجواهر الثمينة للتقدم الرأسمالي الذي تمثله الصناعات التكنولوجية لوادي السيليكون[Silicon Valley]، بعد أن أنستنا أنها ولدت في رحم التعاون بين الصناعة والحرب الاحترافية وحماية وزارة “الدفاع” أو “الهجوم” في الولايات المتحدة، و أغرقتنا في سيل من أغلظ الأَيْمانِ أنها مع حقوق الإنسان والتنوع العرقي ومحاربة الإقصاء ومع الحرية وضد الحرب والسلاح وتساند “أوباما”[ الرئيس الديمقراطي الأمريكي الأسبق]، فإنها مع الحرب الاستعمارية التطهير-عرقية الجارية، أعلنت عودتها لبيت الطاعة لكل القيم والمصالح المناهضة للإنسانية التي توجد وتنمو في قلب النظام الرأسمالي الأطلسي.

لكن ربما أن البصيص الوحيد من الأمل هو الاقتناع بأن أصحاب الرساميل الهائلة المتحكمة في هذه القطاعات، وبوسائلها الهائلة والآثار الأكيدة لسياساتها تعرف علم اليقين أن العالم على وشك الانهيار وأن البشرية مهددة تهديدا آنيا وخطيراً، مما قد يستنهض كل الشعوب والقوى والعلماء والمثقفين والناس العاديين للدفاع عن وجودهم واستمرار الحياة وعودة الوعي والضمير.

ثم يأتينا من الأخبار سوء جديد، حيث تقرر محكمة العدل الدولية إعطاء إسرائيل مهلة 6 أشهر إضافية حتى يناير 2026 لعرض دفاعها في تهمة الإبادة الجماعية في غزة، مما يعني منحها مهلة حتى السنة المقبلة أو التي تليها لتستكمل حربها على القطاع. ومن الواضح أن هذا القرار والمهلة ينسجم مع التهديدات الموجهة للمحكمة في هذا الموضوع.
سقطةٌ-نكسةٌ أخرى إذن لمؤسسات حماية القانون الدولي والإنساني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى