اقتصادالرئسية

انقطاع الكهرباء يربك حسابات الاقتصاد الإسباني

في حدث استثنائي وُصف بالأضخم من نوعه في تاريخ إسبانيا، عاشت البلاد، ومعها البرتغال، ساعات من الشلل شبه الكامل عقب انقطاع مفاجئ وواسع للتيار الكهربائي وخدمات الإنترنت، مما أحدث حالة من الارتباك العام في القطاعات الحيوية وأثار جدلاً واسعاً حول حجم الخسائر الاقتصادية المحتملة. ومع انقضاء الأزمة وعودة النور تدريجياً إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، بدأت مرحلة التقييم والتحليل لمحاولة فهم الأثر الحقيقي لهذا الحدث على ثاني أكبر اقتصاد في جنوب أوروبا.

قدّرت الخسائر الأولية بمبلغ 400 مليون يورو

على الرغم من أن الحكومة الإسبانية قدّرت الخسائر الأولية بمبلغ 400 مليون يورو، وهو رقم يبدو ضخماً للوهلة الأولى، إلا أن محللين اقتصاديين أشاروا إلى أن الكلفة الإجمالية قد تتراوح بين 900 مليون و1.5 مليار يورو، أي ما يعادل ما بين مليار و1.7 مليار دولار تقريباً, غير أن هذه الأرقام، رغم جسامتها، تبقى دون المستوى اليومي للناتج الاقتصادي الإسباني، الذي يُقدّر بنحو 4.5 مليارات يورو, وهذا يعني أن الأثر الإجمالي على الناتج المحلي الإجمالي لشهر أبريل سيظل ضمن هامش محدود يتراوح بين 0.1% و0.2%، وهو ما طمأن بعض الأوساط المالية، وإن لم يبدد تماماً المخاوف من تكرار هذه الأعطال.

و تعود الصعوبة الحقيقية في تقدير الخسائر إلى تباين أثر الانقطاع على مختلف القطاعات والمناطق، ففي حين استمرت بعض الأنشطة التجارية في العمل جزئياً أو كلياً، خاصة تلك التي لا تعتمد بشكل مباشر على الطاقة أو الإنترنت، شهدت قطاعات أخرى توقفاً شبه كلي، وعلى رأسها الصناعة والنقل، المدة المتراوحة للانقطاع بين 6 و10 ساعات، وعودة التيار بشكل تدريجي، زادت من تعقيد الحسابات، ما جعل من الصعب إصدار تقديرات دقيقة للخسائر أو تحديد القطاعات الأكثر تضرراً على وجه الدقة.

فيما سارعت السلطات الرسمية إلى محاولة احتواء الأثر الاقتصادي والإعلامي للانقطاع، حيث أكد وزير الاقتصاد الإسباني كارلوس كويربو أن الخسائر المقدرة أولياً تعتمد على بيانات بوابات الدفع الإلكترونية، التي سجّلت تراجعاً بنسبة 55% مقارنة بيوم الإثنين السابق، إلا أن الوزير أشار في الوقت نفسه إلى أن قسماً كبيراً من هذه الخسائر يمكن تعويضه مع استعادة النشاط الاقتصادي، وهو ما بدأ يتحقق فعلياً خلال اليومين التاليين للانقطاع، فبحسب معطيات وزارة الاقتصاد والمالية، عرف يوم الثلاثاء الذي تلا الأزمة ارتفاعاً في النشاط بنسبة 9% عن المتوسط المرجعي، كما سجل صباح الأربعاء التالي زيادة بـ25%، مما أضاف نحو 130 مليون يورو إضافية إلى الدورة الاقتصادية.

فقدان قيمة مليار يورو في يوم واحد

كما دعمت وجهات النظر الأكاديمية هذا الطرح، و اعتبر مانويل هيدالغو، أستاذ الاقتصاد بجامعة بابلو دي أولافيدي، أن السيناريو الأسوأ يتمثل في فقدان يوم كامل من النشاط الاقتصادي بقيمة مليار يورو، لكنه أشار إلى أن الواقع أكثر تعقيداً، حيث استمرت الكثير من الأعمال، وفتحت مطاعم ومتاجر عديدة أبوابها، ما خفف من وقع الأزمة، فالقطاعات المرتبطة بأنشطة طويلة الأجل مثل السياحة والزراعة والنقل البحري لم تتأثر بشكل جوهري، في حين بدت الضربة أكثر إيلاماً لقطاعات تعتمد على اللحظة الآنية في الإنتاج والاستهلاك.

في ذل ت السياق، أيدت الخبيرة الاقتصادية ماريا خيسوس فرنانديز من مركز “فونكس” هذه النظرة المتوازنة، معتبرة أن الناتج المحلي لليومين التاليين ساهم في تعويض بعض ما فُقد، وإن أشارت إلى أن رصد الأثر الدقيق على النمو في أرقام الربع الثاني سيكون معقداً جداً، نظراً لتداخل عوامل دولية أخرى، بينها توترات تجارية وفرض رسوم جمركية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

على المستوى الاجتماعي، أظهر الانقطاع هشاشة بعض آليات الاستهلاك اليومية في المجتمع الإسباني، حيث تسببت الأزمة في اضطرابات حادة في عمليات البيع والشراء، نظراً لاعتماد أغلب المؤسسات على الدفع الإلكتروني، ما دفع إلى إغلاق مؤقت لعدد من المحال الكبرى، هذه الفجوة فتحت الباب أمام المحلات الصغيرة والبقالات، التي شهدت إقبالاً استثنائياً من المواطنين الباحثين عن ضروريات الحياة اليومية من مياه ومعلبات ومخبوزات وورق صحي، ما أدى إلى نفاد بعض المنتجات في وقت وجيز.

هذا و لم يتوقف الطلب المفاجئ عند المواد الغذائية، بل شمل أيضاً الأجهزة الكهربائية التي تعمل بالبطاريات، مثل المصابيح والراديوات، ومواقد الغاز، وشواحن الهواتف المحمولة، ما عكس استعداداً جماهيرياً لمواجهة انقطاعات مشابهة في المستقبل، وإن كان مؤقتاً.
كما عرفت بعض المطاعم التي تعتمد على الطهي بالغاز أو تقدم منتجات باردة وجاهزة بدورها انتعاشاً محدوداً، في وقت اضطرت فيه مطاعم أخرى إلى إغلاق أبوابها بسبب عدم القدرة على الطهي أو إتمام الدفع.

رغم هذا الاضطراب، لم تكن الصورة سوداوية بالكامل، فقد أشار تقرير حديث لوكالة بلومبيرغ إلى أن الاقتصاد الإسباني، الذي يظل مدفوعاً بالطلب المحلي، سجّل أداءً قوياً في الربع الأول من عام 2025، بنمو بلغ 0.6% مقارنة بالربع السابق، وهو رقم يقارب نمو الربع الرابع لعام 2024 والبالغ 0.7%.
هذا الأداء المستقر، إلى جانب قيام صندوق النقد الدولي برفع توقعاته لنمو الناتج المحلي الإسباني إلى 2.5% لسنة 2025، يعكس ثقة دولية في قدرة إسبانيا على امتصاص الصدمات.

ومع ذلك، فإن تحذير وحدة “بلومبيرغ إيكونوميكس” من احتمال تراجع الناتج المحلي الإجمالي الفصلي بنسبة قد تصل إلى 0.5% بسبب الانقطاع، يُبقي باب القلق مفتوحاً، لا سيما إذا لم تتخذ خطوات حازمة لتعزيز مرونة الشبكة الكهربائية. فبينما تتواصل التحقيقات لتحديد الأسباب التقنية واللوجستية وراء الحادث، تظل العبرة في استخلاص الدروس، وبناء أنظمة أكثر صلابة تمنع تحول الظلام العابر إلى أزمة متكررة تهدد استقرار الاقتصاد والسكينة العامة في إسبانيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى