الرئسيةرأي/ كرونيك

بنكيران يتحدّى هيراقليطس

بقلم الصحافي: علي أنوزلا

نتهى المؤتمر التاسع لحزب العدالة والتنمية المغربي، ذي المرجعية الإسلامية، كما بدأ بدون مفاجآت تُذكر، وكأن الهدف من انعقاده كان التمديد للمرة الرابعة لأمينه العام الخالد عبد الإله بنكيران.

وكان هذا التجديد متوقّعاً بعد أن فرض الرجل نفسه مُنقذاً للحزب منذ المؤتمر الاستثنائي الثامن، الذي انعقد قبل سنتين ليستدعي بنكيران من تقاعده السياسي ويرمي به مجدّداً داخل الحلبة السياسية، في محاولة لتحدّي حكمة الفيلسوف اليوناني هيراقليطس التي لخصها في مقولته المأثورة: “لا يمكن للمرء أن يستحمّ في النهر نفسه مرّتين”.

مرّة أخرى، يخلف الحزب الإسلامي الوحيد المشارك في اللعبة السياسية داخل المغرب موعده مع التاريخ، ويعيد تكرار تجارب أحزاب أخرى سبقته كانت مالئةً دنيا السياسة في البلد وشاغلة ناسها قبل أن تتحوّل إلى نسيٍ منسِيٍّ، فمنذ خروجه المدوي من إدارة الشأن العام على مستوى الحكومة، وفي رئاسة بلديات مدن كبرى عديدة، لم يُقدِم الحزب على تقديم قراءة نقدية لتجربته، وكان ينتظر أن يكون المؤتمر أخيراً محطّة مهمّة لتقييم مساره ومراجعة أخطائه، لكن زعيمه التاريخي عبد الإله بنكيران حوّله إلى مجرّد لحظة مبايعة له وتزكية لاستمراره على رأس قيادته.

بنكيران6

والذين يتحدّثون بانبهار عن ديمقراطية الحزب الداخلية ينسون أن الحزب نفسه عقد عام 2016 مؤتمراً استثنائيّاً فقط لتغيير قانونه الداخلي الأساسي الذي كان يحدّد تولّي منصب الأمانة العامة في ولايتين، للسماح لبنكيران بتمديد ولايته أميناً عامّاً للحزب عامين إضافيين.

وفي عام 2021، على أثر السقوط المدوي للحزب في استحقاقات ذلك العام واستقالة قياداته، تم النداء مجدّداً، في مؤتمر استثنائي، على بنكيران لتسلم مقاليد الحكم لولاية استثنائية جديدة، واليوم يُعاد انتخابه، بل مبايعته، لولاية رابعة تستمر حتى عام 2028.

خيّبت التركيبة الجديدة القديمة لهياكل حزب العدالة والتنمية القيادية التي انبثقت عن مؤتمره ظنّ كثيرين كانوا يراهنون على تجديده وتطويره

إعادة انتخاب بنكيران لولاية رابعة على رأس حزبه، وقد تجاوز عقده السابع، تُرسل عدّة إشارات سلبية عن الوضع الصحي للحزب الذي يوصف في المغرب بأنه حزب “إسلاميي القصر”، فقد أظهر مؤتمره أخيراً عدم قدرته على ترشيح قيادات شابّة أو عدم ثقة قاعدته المحافظة في مثل هذه القيادات، بما أنها موجودة. وقد جرى ترشيح بعضها للمنافسة الشكلية، لكن أغلبية المؤتمرين فضّلوا التصويت لشيخهم، ولأقرب الناس إليه، بحيث حصل بنكيران ورجال ثقته داخل الحزب وأقرب مساعديه على تزكية المؤتمرين منذ الدورة الأولى لانتخابات قيادته.

وهذه نتيجة كانت منتظرة، بما أن أبرز قيادات الحزب التي كان يمكن أن تنافس زعيمه الشعبي إما أُبعدت أو ابتعدت عن الحزب، ومنها من اعتزل العمل السياسي، كلٌّ لأسبابه، ما جعل الجو يخلو لبنكيران ومريديه.

وهنا نحن أمام متلازمة “الشيخ والمريد” التي تعاني منها أحزاب سياسية كثيرة في المغرب، بما فيها حتى المحسوبة على اليسار، التي لم تتخلّص بعد من مفهوم “الزاوية”، حيث يتداخل العاطفي والروحاني، وتترسّخ تبعية المريد للشيخ في لاوعي الأشخاص الأعضاء والتُبَّعِ والمتعاطفين.

طوال يومين، استغرقتهما أشغال مؤتمر حزب العدالة والتنمية في الرباط، لم نسمع نقاشاً قوياً داخل أروقته أو في أوراقه حول أسباب الزلزال الانتخابي الذي ضربه عام 2021 وأسقطه من رئاسة الحكومة وحوّله إلى مجموعة صغيرة في صفوف المعارضة البرلمانية، كما لم نشهد طرح برامج سياسية قوية متنافسة يتدافع أصحابها لاستمالة مساندة المؤتمرين وتأييدهم، أو تثير معارضتهم وتذكي نقاشاتهم، وحتى التقرير السياسي الذي كان المراقبون ينتظرون أن يقرأوا فيه نقداً ذاتياً للتجربة أو برنامجاً جديداً لإعادة بناء الحزب، حوّله الأمين العام المنتهية ولايته إلى “قفشات” و”مستملحات”.

المغرب.   وهذا أسلوب بنكيران الخاص، الذي اعترف أمام المؤتمرين بأنه لم يساهم إلا بمقدار في صياغة التقرير السياسي الذي لم يقرأه أمام المؤتمرين، واكتفى باستعادة جزءٍ من تاريخ الحزب ودوره هو شخصياً في بناه وقيادته، وهذا كلام يكرّره الرجل في كل مناسبة وبدون مناسبة. وفي هذا السياق، تم تجاوز توقيع الأمين العام السابق للحزب سعد الدين العثماني على اتفاقات التطبيع مع إسرائيل عام 2020، عندما كان الحزب يرأس الحكومة، والأثر السلبي لذلك الموقف على شعبيته ودوره في الانتكاسة التي مني بها في انتخابات 2021. وبدلاً من الاعتراف بالخطأ أو الاعتذار عنه، دافع الأمين العام الذي جرى التمديد له، عن موقف سلفه، مبرّراً تطبيع الدولة بمراعاة مصالحها العليا!

بدلاً من الاعتراف بالخطأ أو الاعتذار عنه، دافع الأمين العام الذي جرى التمديد له، عن موقف سلفه، مبرّراً تطبيع الدولة بمراعاة مصالحها العليا!

أما التركيبة الجديدة القديمة لهياكل الحزب القيادية، التي انبثقت عن المؤتمر، فقد خيّبت ظنّ كثيرين كانوا يراهنون على تجديده وتطويره، بما أنها أعادت الوجوه القديمة نفسها إلى مواقعها السابقة، في ما يشبه إعادة تدوير داخلية لن يكون لها أثر كبير على أداء الحزب ونشاطه. ومن خلال القراءة السريعة لهذه التركيبة، التي تفتقد إلى برنامج سياسي واضح، يصعب تصوّر عودة الحزب إلى القوة التي كان عليها في انتخابات 2011 وما تلاها من استحقاقاتٍ حقّق فيها فوزاً باهراً ظاهراً، ويُعتقد أن هذه قناعة بعض قيادات الحزب الحالية وبعض مناضليه الأكثر واقعية، بما أن النكسة التي أصابته ليست عابرة، وإنما هي بنيوية، كان منتظراً من مؤتمر الحزب أن يفكّكها ويحلّلها، ويبحث عن سبل الخروج منها، لكنه فضّل الهروب إلى الأمام، ما سيؤدّي مستقبلاً إلى تعميقها وبالتالي إضعاف الحزب أكثر مما هو ضعيف اليوم.

طوال عقد ونصف العقد، جرت مياه كثيرة تحت جسر هذا الحزب صاحب المسار الاستثنائي بين تجارب الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وفي الحالة المغربية خاصة، إذ كان ولا يزال يعتبر أول حزب إسلامي تَفتَح له السلطة باب المشاركة السياسية، وحملته صناديق الاقتراع إلى سدَّة قيادة الحكومة لولايتين متتاليتين طوال عقد في سابقةٍ لم يشهدها أي حزب سياسي في المغرب، من قبل ومن بعد، منذ استقلال البلد.

وبدلاً من أن يساهم الحزب الذي حمل ذات يوم شعار “التغيير من الداخل” في إحداث التغيير الذي كان ينشده، يبدو أن من تغيّر هو الحزب نفسه، بعدما تحوّل إلى رقم عادي داخل المعادلة السياسية المغربية المعقدة التي دأبت على تدجين الأحزاب وتطويعها وتحويلها إلى عجلات احتياط تُستبدل بعد استنفاد صلاحياتها، وفي أحسن الحالات واقية من الصدمات لامتصاص ارتجاجات المنعرجات الصعبة وصدّ مخاطر الانزياحات الخطيرة.
المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى