
أمريكا اللاتينية تودع أفقر وأنبل رئيس في العالم
عمّ الحزن أرجاء أمريكا اللاتينية أمس الثلاثاء 13 ماي الجاري، وامتدت ظلاله لتغمر قلوب الملايين حول العالم، مع إعلان وفاة الرئيس الأوروغواي الأسبق خوسيه موخيكا، الرجل الذي اختار أن يبقى إنساناً في عالم السياسة المليء بالمراوغة والامتيازات.
حيث رحل موخيكا عن عمر يناهز90 سنة، بعد صراع مع مرض سرطان المريء، مرض “الشخصيات العظيمة” كما يصفه محبوه، كأنه انتقى ختاماً يليق بسيرة رجل استثنائي.
زعيم خرج من رحم الفقر… وعاد إليه بإرادته
ولد خوسيه ألبرتو “بيبي” موخيكا كوردانو في 20 ماي 1935، وعاش حياة مليئة بالنضال والتحدي، بدأها مقاتلاً في صفوف “توباماروس”، الحركة الثورية اليسارية في أوروغواي، وسُجن لأكثر من 13 سنة في ظروف قاسية، خرج منها لا حاملاً للثأر، بل ناشراً لقيم التسامح والسلام.
وصل إلى منصب الرئاسة في سنة 2010 بعد مسيرة سياسية حافلة، وكان قد شغل قبلها منصب وزير الزراعة، ثم عضواً في مجلس الشيوخ. لكن شهرة موخيكا تخطت حدود بلاده الصغيرة، حين اختار أن يعيش رئيساً كما كان يعيش مواطناً بسيطاً: بدون حراسة، بدون موكب، وبدون رفاهية.
رئيس بلا قصر… وصاحب “البيتيل” الخضراء
لم يقم موخيكا في القصر الرئاسي بل في مزرعة متواضعة على أطراف العاصمة مونتفيدو، مع زوجته لوسيا توبولانسكي، التي كانت بدورها عضواً في مجلس الشيوخ وشريكته في نذر البساطة والتضامن.
استمر في قيادة سيارته القديمة من طراز “فولكس فاغن بيتيل” لعام 1987، وتبرع بـ90% من راتبه الشهري للجمعيات الخيرية والمبادرات الاجتماعية، مكتفياً بمبلغ زهيد يعادل متوسط دخل المواطن الأوروغواياني.
خلال فصل شتاء 2014، حين ازدادت أعداد المشردين في العاصمة، فتح موخيكا أبواب القصر الرئاسي لهم قائلاً: “القصر كبير جداً عليّ… ولهم الحق في السكن الكريم.”
إرث من الكرامة… والسياسة النبيلة
تميّزت فترة حكمه بإصلاحات اجتماعية طموحة، شملت التعليم، الصحة، وقوانين العمل، بالإضافة إلى تقنين زراعة الحشيش لأغراض طبية، في خطوة رأى فيها تقليصاً لهيمنة تجار المخدرات على حياة الفقراء.
لم يكن موخيكا يسارياً عادياً، بل إنساناً استثنائياً بفلسفته في الحياة: “من لا يملك وقتاً ليعيش، فهو أفقر الناس”، كان يردد. وفي عالمٍ اختلط فيه المال بالسلطة، قدّم موخيكا نموذجاً عكسياً تماماً: رجل بلا أقنعة، يتحدث ببساطة، ويفكّر بأخلاق فلاح.
وداعاً يا خوسيه…
برحيل خوسيه موخيكا، تخسر الإنسانية أحد رموزها النادرة؛ رئيساً خلع بذلة الزعامة ليبقى قريباً من شعبه، ومقاتلاً ترك السلاح ليحمل راية السلام، وإنساناً عاش كبيراً ومات متواضعاً.