
لم يكن يوسف يتوقع أن تتحول والدته، تلك المرأة التي أفنت عمرها في تربيته، إلى رقم آخر في طابور الانتظار الطويل داخل مستشفيات عمومية منهكة، يُصارع فيها المرضى الألم وحدهم. في لحظة ما، لم يعد السرطان مجرد مرض يهاجم جسد والدته، بل أصبح وجهاً آخر لنظام صحي عاجز، يرى المريض ولا يتحرك، يسمع أنينه ولا يستجيب.
الورم استقرّ في منطقة حساسة بين المريء والمعدة، مغلقًا الممرات الحيوية أمام الطعام والشراب وحتى الهواء. تحولت الحياة إلى معركة يومية، وانحصرت التغذية في أنبوب صناعي، لم يلبث أن انسدّ هو الآخر، لتبدأ رحلة استغاثة جديدة. توجه يوسف وعائلته إلى المستشفى بحثًا عن تدخل عاجل، لكنهم اصطدموا بجدار من البيروقراطية.
قيل لهم إن عليهم الانتظار حتى الصباح، حتى تُفتح الأبواب، حتى “يشتغل النظام”. غير أن الألم لا ينتظر، والموت أيضًا لا يتقيّد بساعات العمل الإداري.
في روايته، لا يكتفي يوسف بسرد معاناة شخصية، بل يضع إصبعه على جرح عام يعيشه الآلاف في المغرب، يتحدث عن منظومة صحية مشلولة، وعن مستشفيات عمومية تئن تحت وطأة الإهمال، وعن قطاع خاص يزدهر على حساب الضعفاء.
يرى في مرض والدته تجليًا لما هو أبعد من الورم: تجليًا لبلد يعجز عن رعاية مواطنيه في لحظات ضعفهم القصوى، ولفجوة متسعة بين ما يُقال وما يُعاش.
يوسف لا يخفي غضبه، لكنه لا يحوله إلى صراخ، يحاول أن يشرح، أن يُظهر التناقضات، أن يدق جرس الإنذار.
بالنسبة له، ما تعيشه أسرته ليس استثناء، بل هو الواقع المألوف للكثيرين. واقع يُحوَّل فيه العلاج إلى امتياز، والتعليم إلى وسيلة للضبط بدلًا من التحرر، والكرامة إلى مفهوم مرتبط بالمال أو النفوذ.
لا يطلب يوسف شفقة، بل يطالب بحق أساسي: نظام صحي يحترم الإنسان، مدرسة تُربي على الحرية، دولة تُعامل المواطن كمواطن، لا كمستفيد مشروط، ويقول إن ما عاشه علّمه أن النضال ليس خيار، بل ضرورة، وأن الكرامة لا تُطلب، بل تُنتزع، وأن من يدفن الألم في الصمت، يساهم، دون أن يدري، في تطبيع الجريمة.
قصته ليست فقط عن أمٍ تصارع السرطان، بل عن وطن يصارع الفساد في كل القطاعات، وعن مواطن يرى في مرض والدته صورة مكثفة لمعاناة بلد بأكمله، ويختار ألا يصمت.