الأرض،الكاميرا والجرافة..”لا ارض أخرى” وثائقي ينتزع جائزة الأوسكار
18/05/2025
0
بقلم الكاتب والناقد السينمائي: محمد بكريم
بدون سابق انذار، يحط هذا الفيلم الرحال في المشهد السينمائي ككائن فضائي، حيث يثير العديد من التساؤلات حول مواضيع هي في صميم السينما اليوم. “لا أرض أخرى” ” فيلم وثائقي” يثير بالفعل تساؤلات / إشكالات على الأقل على ثلاثة مستويات:
1- ماذا يمكن أن تقوم به الصور أمام مأساة تتعرض لها مجموعة كاملة من الناس الذين تُنزع أراضيهم وتُصادر كل ما يشكل هويتهم؟ الفيلم يطرح بطريقته سؤال مشروعية السينما في تناول الأحداث التاريخية أو المعاصرة مع التوازن الدقيق والصعب بين الفرجة والصدق
2- الفيلم يطرح أيضًا سؤال الوثائقي اليوم في مواجهة التحول الذي تشهده إنتاج وتوزيع الصور؛ بعبارة أخرى، سؤال البنية ((dispositif وهُوية الوثائقي نفسه في مواجهة التسونامي الإعلامي. (مع تزايد الخلط ما بين الربورتاج والوثائقي)
3- والفيلم تتخلله بشكل صريح أو ضمني قضايا سياسية تنبع من الحكاية نفسها (ومن إخراجه)؛ فهو في جميع الأحوال ينتج خطابا حامل لنظرة جديدة على صراع رئيسي في عصرنا.
لنوضح أولاً أن الفيلم لا يفتقر إلى الأصالة، بدءا من طريقة إنتاجه؛ فهو من زاوية مؤسساتية، يُقدم “كوثائقي فلسطيني-نرويجي” انتاج 2004. ومن زاوية صياغته وإخراجه، هو في الواقع من انتاج مجموعة فلسطينية-إسرائيلية تتكون من ناشطين فلسطينيين وإسرائيليين “إخراج الرباعي باسل عدرا، وحمدان بلال، ويوفال يوفال إبراهيم، وراحيل تسور، وهم ناشطون فلسطينيون وإسرائيليون داعمون للقضية الفلسطينية“، لا سيما باسل عذرا وإيفال أبراهام الذين يظهران أيضًا في الفيلم، ويعملان كوسيط سردي. حظي الفيلم بسرعة، حتى قبل عرضه في دور السينما، باستقبال دولي إيجابي للغاية فهو حاصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي وخاصة الجائزة الكبرى في مهرجان برلين السينمائي. ومؤخرا على جائزة النقد العربي في دورة كان 78
فيلم يفتتح بمشهد ليلي غامض
يفتتح الفيلم بمشهد ليلي، غامض يمكن قراءته كصورة بلاغية ايحائية. نكتشف شخصية في مركبتها تسير في الليل (أليس هذا هو وضعنا كمشاهد أمام الأحداث المعروفة باسم أحداث الشرق الأوسط؟). يُحاصر من جميع الجهات بتدفقات ضوئية، التي بدلاً من أن تُطمئنه، تخلق جوًا من القلق والشك. مجموعة من العلامات المعقدة التي تشير إلى تعقيد الوضع السياسي الذي يتناوله. نص تم استلامه عبر الهاتف يزيد من أجواء التشويق: قرية محاصرة من قبل الجيش. إنها الليلة المجازية لفلسطين.
معلومتان رئيسيتان على الفور: نحن امام شخصية تتحرك؛ والحضور الوازن لوسائل الاتصال (دور الهاتف)
يقدم لنا المشهد التالي، مع ضوء النهار (هدف الفيلم أن نخرج من الظلمات الى نور حقيقة ما يجري)، توضيحًا لما سيكون موضوع الفيلم. يقدم لنا الشخصية بصوت خارجي سيرافقنا/ يرشدنا طوال السرد. إنه باسل عدره، ناشط فلسطيني شاب من منطقة الحدود، “مسافر يطا” بجنوب الضفة الغربية المحتل. نفهم بسرعة أن سلاح مقاومته هو الكاميرا. وهي مقاومة يعيشها منذ طفولته مع الاعتقال الأول لوالده (دور الصور الأرشيفية).
من هذا المنظور، الفيلم هو يوميات معاناة جيل. نرى هذا الاعتداء الذي تتعرض له البراءة منذ سن الخامسة ثم السابعة والآن في سن البلوغ. الفيلم يرافق هذا الألم من عام 2019 إلى عام 2023… يتوقف في أكتوبر 2023: سينتهي الفيلم بأخر صور التقطها باسل وهي مروعة عن عنف لا يوصف.
التهجير العبارة الرهيبة
الصراع والمواجهة مع جيش الاحتلال ليست قضية جديدة. الجيش الإسرائيلي يريد تحويل هذه المنطقة، هذه الأراضي إلى منطقة عسكرية. وبالتالي، يتم طرد أو “تهجير” أكثر من ألف فلسطيني – تهجيرهذه العبارة الرهيبة التي تخفي بشكل سيء المأساة التي يعيشها الناس.
باسل رجل الصور؛ شاب ابن زمنه يستحوذ على أداة – وسائل التواصل الاجتماعي – التي تقدمها له الحداثة للدفاع عن قضيته المتمثلة في الأرض. بكلمات منطق هذا الزمن الوسائطي يمكن نعته ب “يوتيوبر”؛ مؤثر. يصور التدمير التدريجي للقرى في وطنه، حيث يقوم الجنود الإسرائيليون بهدم المنازل وطرد السكان.
يصور بشكل أساسي الناس؛ عائلته؛ جيرانه، لحظات المواجهة. كاميرا في مواجهة للجرافة. صورة بليغة تغني مخيال بلد الحكايات الأسطورية. عمليات الهدم لا تنجح في «هدم» الإرادة. صور الفيلم تعبر عن هذه المقاومة: يتم هدم المنازل والمدارس… السكان يعيدون البناء ليلاً في السرية… أو يلجؤون إلى الكهوف التي يحولونها إلى أماكن للعيش.
صانعين الأمل، وفرحة الحياة ضدا على الآلة التدميرية. الأمهات الرائعات يعتنين بالعائلة والحيوانات الأليفة (لقطة سريعة ولكن معبرة للهر الصغير الذي تعطيه الأم الحليب في كهف العائلة!)، ويشاركن في المظاهرات. أفضل مقاومة تلتقطها الصور بتعاطف تُجسدها فرحة الحياة والتعلم التي تنبعث من الأطفال: هم جميلون، بعيون كبيرة هي في حد ذاتها وعد بمستقبل آخر. يوتوبيا ممكنة.
نعم مستقبل آخر يتشكل مع الصداقة التي تربط باسل بيوفال، صحفي إسرائيلي يساعده في نضاله، وهو نفسه ملتزم يكتب باستمرار في سياق مشروع معارضة لما يعانيه السكان المدنيون الفلسطينيون.
يأتي من المدينة المجاورة، بئر السبع. وصوله يخلق تناقضًا يثير تساؤلات ولما لا أملًا. يتم استقباله بحرارة من قبل عائلة باسل (باستثناء طفل صغير يرفض تحيته ويكتفي بالنظر إليه بطريقة غريبة مما يضفي لحظة توتر جميلة على الفيلم) يتعرض يوفال لمضايقات ودفع من الجنود. لكن انزعاجه كان داخليًا أكثر. يعيش بشكل ما مأزق وجودي لكيان مصطنع،
يبدو باسل هادئا ورصينا مستندا الى قناعة وجودية. بل ويتهكم من تشاؤم يوفال ومن قلقه من العدد المحدود للتفاعلات مع النصوص المنددة بالاستيطان التي ينشرها؛ باسل، الذي يعيش التراجيديا من الداخل، يلومه على هذا اليأس الناجم عن عدم صبره.
حوارهم، صمتهما؛ لقاءاتهما العاجلة ولكن العميقة ترسم في الخلفية البعد السياسي للفيلم وتفسر بالتأكيد ردود الفعل المتناقضة التي أثارها. يرى مثلا غلاة الصهيونية فيه بالفعل عملاً معادياً للسامية. استقطبته هوليوود لتلميع سمعتها الليبرالية من أجل دمجه في منظومة صناعة الفرجة العالمية التي تديرها، (ظلت الأكاديمية صامتة لفترة طويلة تجاه المتاعب التي واجهها باسل عدره عند عودته إلى بلده).
الحل في فلسطين موحدة
يقول الفيلم في الواقع إن الحل الاستراتيجي لا يمكن أن يكون إلا في فلسطين موحدة، مفتوحة لتعايش جميع مكونتها التاريخية. وهكذا نفهم العنوان بأن “لا أرض أخرى لهؤلاء ولأولئك” …ألمس ذلك بشكل خاص من خلال تلميح ضمني وذكي إلى السابقة التاريخية التي تشكلها جنوب أفريقيا.
هناك بالفعل مشهد كامل في الفيلم يصف نظام الفصل العنصري الذي ينتجها الاحتلال مع تمييز الألوان (الأصفر مقابل الأخضر) الذي يحدد حق اكل واحد في التنقل: “الأخضر” للفلسطينيين يحبسهم في غيتو و”الأصفر” للاحتلال يفتح لهم كل الأراضي!
الفيلم من جهة أخرى وأكاد أقول أساسا مقترح /اجتهاد سينمائي حول مسألة الوثائقي. خاصة في المرحلة التي يعرف فيها الوثائقي استغلالا “متوحشا”.
في مقاربة نظرية سريعة أقول إذا أردنا ترتيب الفيلم من خلال التصنيف الذي وضعه بيل نيكولز (المنظر الأمريكي للوثائقي)، سأقول إن فيلم “لا ارض أخرى”ينتمي إلى النمط “الانعكاسي”؛ أي أن الفيلم ينعكس على نفسه: المخرج هو في الوقت نفسه مؤلف الفيلم وشخصيته الرئيسية. وبلغة اللسانيات «الناطق يقتحم المنطوق”
وهو بذلك يسير على هدى اتجاه يميز الوثائقي المعاصر.
بدلاً من الذهاب لتصوير البعيد (الاتجاه التاريخي للفيلم الوثائقي منذ مؤسسه فلاهرتي)، نقوم بتصوير القريب؛ أفلام عن المواضيع القريبة (الحميمية، العائلة). في هذا السياق، أرغب في الحديث عن اقتراح مفهوم جديد وهو “الوثائقي – السيلفي”: تصوير الموضوع يمر أولاً عبر تصوير الذات.