
في بلد اعتاد فيه المواطن على أن يرى شعارات الإصلاح تُعلّق على جدران الأحزاب بينما تُعلّق الأموال على شماعة المشاريع و المخططات و الدراسات، يظهر حزب التجمع الوطني للأحرار_حزب سياسي مغربي أسسه أحمد عصمان رئيس الوزراء السابق وصهر الملك الحسن الثاني في أكتوبر 1978_، قائد الحكومة ومهندس “النموذج التنموي الجديد” و مؤسس الدولة الاجتماعية (حسب ما يقدّم نفسه)، بمظهر لا يُحسد عليه: 5.62 مليون درهم من المال العام تبخّرت تحت عباءة ثلاث دراسات، لم ير منها أحد سوى العناوين، لا مضامين ولا نتائج ولا حتى مسودات يتيمة تُرضي فضول محقق مبتدئ.
لكن هل نحن بصدد دراسات عن الاقتصاد الوطني؟ عن النموذج التنموي؟ عن مستقبل الرقمنة؟
لا، بل عن أداء منتخبي الحزب وتقييم السياسات الجهوية…
حزب الأحرار صرف أكثر من نصف مليار سنتيم ليدرس نفسه بنفسه
يعني الحزب صرف أكثر من نصف مليار سنتيم ليدرس نفسه بنفسه، ويُقيم أداء منتخبيه، ويُجري دراسة حول السياسات العمومية التي هو من يقود تنفيذها، وكأنه يسأل نفسه “آش درت؟” ثم يجيب “درت مزيان بزاف، خاصني تصفيقة!”
فهل نحن أمام حزب سياسي؟ أم أمام مقاولة مهنية متخصصة في “تبييض” الميزانيات عبر أوراق علمية وهمية؟ سؤال لم يعد ترفًا بل ضرورة ملحّة بعدما كشف المجلس الأعلى للحسابات – بهدوء الموظف النزيه الذي يدلي بالشهادة ثم يمضي، عن ثقب أسود ابتلع الملايين دون أن يخلّف وراءه سوى غبار التقارير والتبريرات.
الية دعم مالي للأحزاب
فمنذ سنوات، وضعت الدولة آلية دعم مالي للأحزاب السياسية بهدف تمويل التأطير السياسي، تكوين الأطر، وإنجاز الدراسات ذات الصلة بالعمل العمومي والتشريعي، هذا التمويل، الذي يفترض أن يُترجم إلى أوراق بحثية، مقترحات قوانين، أو خطط عمل، تحول أحيانًا إلى صناديق مظلمة، يصعب التحقق من محتواها.
فوفقًا لتقرير المجلس الأعلى للحسابات، أنفق حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يقود الحكومة، مبالغ مالية كبيرة على ثلاث دراسات ممولة من الدعم العمومي الإضافي المخصص للأبحاث والدراسات:
دراسة التهمت 3.42 مليون درهم
الدراسة الأولى التهمت 3.42 مليون درهم، ونفذها مكتب الدراسات “ساوثبريدج”، أي ما يكفي لتمويل تكوين مئات من الكوادر الشابة في مجالات التدبير والسياسات العمومية، لكنها على ما يبدو تكوّنت فقط في ذهن مول الفكرة، حيث لا يوجد عقد ولا محضر تسليم ولا حتى صورة جماعية تُخلّد لحظة إنجاز الدراسة، لربما أُنجزت في حلم أحدهم، أو على طاولة شاي بإحدى مقاهي حي الرياض، لا أحد يعلم.
الدراسة الثانية ابتلعت مليون درهم، ونفذها مكتب “IS OPEONINIG”، لكنها على خطى أختها الكبرى، اختفت قبل أن تُرى، لا وثائق، لا دلائل، لا أثر في الأرشيف، وكأننا أمام عصابة محكمة الإخفاء وليست هيئة سياسية.
دراسة أخرى التهمت 1.2 مليون درهم
أما الدراسة الثالثة، بـ 1.2 مليون درهم،ونفذها مكتب “HORIZON فليتها لم تُذكر أصلًا، لأنها لم تتجاوز عنوانًا فضفاضًا في تقرير مالي يفتقر لأي مضمون فعلي.
في هذا السياق
أعرب المجلس الأعلى للحسابات _مؤسسة دستورية مغربية_ عن عدة ملاحظات تتعلق بهذه الدراسات، منها:
غياب الوثائق المبررة للجوء إلى المنافسة: لم يقدم الحزب وثائق تثبت إجراء منافسة لاختيار مكاتب الدراسات، مثل إعلانات الترشيح أو الشروط المطلوبة في المتنافسين.
عدم الإدلاء بتقارير ومخرجات الدراسات: لم يتم تقديم تقارير توضح نتائج الدراسات المنجزة، مما يعيق تقييم جدواها وأثرها على العمل الحزبي والسياسي.
أداء تسبيقات دون إثبات العمل المنجز: سجل المجلس أداء تسبيقات لفائدة مقدمي الخدمات دون تقديم إثباتات على إنجاز العمل المطلوب .
التبرير الرسمي: تكنولوجيا “النية الحسنة”
في مواجهة هذه الملاحظات، لجأ حزب التجمع الوطني للأحرار إلى سلاحه القديم الجديد: “التبرير عبر حسن النية”.. حيث صرح الحزب إنه فعلاً قام باستشارة سبعة مكاتب قبل اختيار الثلاثة، وإنه قدّم العروض داخل الآجال القانونية، بل وتَكرّم بإرجاع بعض المبالغ غير المستعملة.
لكن المشكل هنا ليس في احترام الشكليات، بل في غياب الجوهر:
ما مضمون هذه الدراسات؟
ما الأثر العملي لها؟
لماذا لم تُنشر؟
كيف نُؤدي مبالغ بملايين الدراهم دون وجود مخرجات قابلة للتقييم؟
في الوقت الذي يُفترض فيه أن تساهم هذه الدراسات في تحسين نجاعة العمل السياسي، وتغذية البرامج الانتخابية بأرضية علمية، فإن نتائجها أو غيابها تطرح سؤالًا أعمق: هل يُوظف الدعم العمومي لتعزيز الفعل الحزبي أم لتحصينه من الرقابة؟.
هذا التساؤل يزداد إلحاحًا عندما نستحضر المفارقة المؤلمة في المشهد السياسي المغربي، ففي الوقت الذي لم تتردد فيه السلطات القضائية في متابعة أسماء سياسية بتهم تتعلق بصرف مبالغ صغيرة من دعم الأحزاب، كما حدث مع المحامي والوزير السابق محمد زيان الذي أُدين في جزء من ملفه بسبب اختلالات مالية لم تتجاوز بضع مئات آلاف الدراهم أعادها لاحقًا، يمر إنفاق ملايين الدراهم من طرف حزب يقود الحكومة دون مساءلة جنائية أو حتى سياسية.
تركيز مشهد “اللامحاسبة السياسية” بشكله الأنيق
هنا يكتمل مشهد “اللامحاسبة السياسية” بشكله الأنيق: مجلس أعلى يرصد، برلمان يصمت، إعلام متردد، وحزب حاكم يبتسم بثقة لأنه يعرف أن المساءلة لا تُطبق بالتساوي.
واقع كهذا يُفرغ دعم الدولة للأحزاب من مضمونه الإصلاحي، ويحول هذه الميزانيات إلى ما يشبه امتيازات سياسية مغطاة بغلاف إداري.
فالمفترض أن يتساوى الجميع أمام مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، لكن ما نعيشه هو تفاضل في المحاسبة، تبعًا لموقع الحزب في هرم السلطة.
و ما يزيد من خطورة هذه الحالة هو صمت المؤسسة التشريعية، فباستثناء تقرير المجلس الأعلى للحسابات الذي يلعب دور توثيق المشهد العبثي والذي اكتفى برصد الاختلالات، لم تبادر أي لجنة برلمانية إلى مساءلة مسؤولي الحزب عن هذه الصفقات، لم يُوجه أي طلب إحاطة أو أسئلة كتابية أو حتى دعوة للاستماع إلى رئيس الحزب أو المكلفين بالتدبير المالي داخله.
الفراغ الرقابي يرسّخ منطق “الاستثناء الحزبي”
هذا الفراغ الرقابي يرسّخ منطق “الاستثناء الحزبي”، ويضعف استقلالية المؤسسات، خصوصًا في لحظة سياسية يدّعي فيها الجميع الرغبة في محاربة الفساد وإعادة بناء الثقة.
ببساطة من في الحكم ينجو، ومن في المعارضة يُحاكم، ومن في الهامش يُضحّى به كـ “عبرة” للنظام الديمقراطي الباهت.
و أمام هذا الواقع، يبدو أن الإصلاح السياسي المنشود لن يتحقق عبر شعارات أو مؤتمرات حزبية، بل عبر تفعيل فعلي للأدوات الرقابية، وربط حقيقي للتمويل العمومي بآثار واضحة ومُقاسة على الواقع السياسي والاجتماعي، فالدراسات التي تمول من المال العام من جيوب الشعب، يجب أن تتحول إلى معرفة مشتركة، لا إلى وثائق وهمية، فبلادنا لا تعاني فقط من الهدر المالي، بل من الهدر الأخلاقي، حين تُخصص الملايين لدراسات لا تُنشر ولا تُناقش ولا تُستثمر، فالأمر لا يتعلق بإخفاق في التدبير، بل بإهانة للذكاء العام.
وكأن الحزب يقول للمغاربة: “أنفقنا أموالكم، ولن نريكم ماذا فعلنا بها، وإن لم يعجبكم، يمكنكم كتابة تعليق على فيسبوك.
إن ترك هذه الصفقات تمر بدون رد مؤسسي صارم يُعرض مصداقية الدولة في دعم الأحزاب لخطر التشكيك، ويحول المال العام إلى غنيمة حزبية مغلفة باسم التنمية السياسية.
والمقلق أكثر، أن هذا النموذج قد يتكرر في أحزاب أخرى، إذا لم تكن هناك مراجعة شاملة لمنظومة الدعم، وشروطه، وآليات تتبعه.
في النهاية، لا يمكن لحزب يقود الحكومة أن يطلب من المواطنين الصبر والتقشف، بينما يُغلف صرف ملايين الدراهم بغلاف “الدراسة”، وهكذا، نعود إلى سؤال البداية: هل نعيش في نظام دعم سياسي، أم في مسرح العبث تُوزع فيه الميزانيات كجوائز ترضية لمن يجيد التمويه؟