لطالما مثلت نظرية المشاهدة (Spectacle) لغي ديبور، المفكر الفرنسي الثوري، إطاراً نقديًا قوياً لفهم طبيعة المجتمعات الحديثة التي تتسم بهيمنة متزايدة للصورة والتمثيلات على حساب الواقع الحقيقي. جادل ديبور بأن العلاقات الاجتماعية لم تعد تُبنى على التفاعلات المباشرة بين الأفراد، بل على الوساطة التي تخلقها مجموعة هائلة من الصور والرموز، التي لا تعكس الواقع، بل تشوهه وتحل محله. وهذا المشهد ليس مجرد مجموعة من الصور، بقدر ما هو تجسيد مادي لوجهة نظر عالمية تعكس رؤية يُراد فرضها على الجمهور العريض من المشاهدين المستهلكين للمحتوى.
تكتسب هذه النظرية راهنية شديدة في عصرنا، حيث تتضخم قدرة التلفزيونات ووسائل الإعلام على التأثير، ويقضي مليارات البشر جلّ أوقات فراغهم على منصات التواصل الاجتماعي، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام تزييف الوعي وخلق واقع بديل. ولعل وقائع الإبادة العرقيّةhttp://قطاع غزة من أزمة إنسانية التي تتكشف في غزة تبدو مصداقاً لعدسة ديبور في الكيفية التي تتحول فيها إبادة عرقية مؤدلجة المنطلقات بتواطؤ من الغرب إلى مجرد «مشهد» يتكرر استهلاكه.
في غزّة: تآكل الصدمة
ما نشاهده عبر الشاشات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي ونتفاعل معه حول إبادة غزة ليس الواقع بحد ذاته، بل هو تمثيله في المشهد العالمي، وهو تمثيل يراد له أن يكون مشوهاً، ومجزأً، ومصمماً لخدمة أجندات صهيونية / غربيّة.
فمنذ السابع من أكتوبر 2023، ونحن نتعرّض لوابل غير مسبوق من الصور ومقاطع الفيديو من غزة: صور القصف، الدمار، الأطفال المصابين، جثث الشهداء، وحتى لحظات الرعب واليأس. هذا التدفق المستمر والكثيف للمحتوى البصري، وإن كان ينقل معاناة أهلنا هناك، فإنه، وللمفارقة يمكن أن يؤدي إلى تخدير الوعي بدلاً من تحفيزه.
ففي البداية، قد تثير الصور صدمة وغضباً. لكن مع التكرار اليومي والمستمر، تُصبح هذه الصور جزءاً من المشهد اليومي العادي، وتتلاشى قدرتها على إثارة رد فعل عاطفي عميق أو دفع إلى الفعل، ويصبح الموت والتدمير مجرد «خلفية» بصرية، تفقد قدرتها على هز ضمير المتلقين بأبعد من نشرة الأخبار التالية على التلفزيون أو المنشور التالي على موقع التواصل الاجتماعي، وبدلاً من تحليل الصور وسياقها الكلّي، يتحول المشاهد تدريجياً إلى مستهلك سلبي، يمرر المحتوى، ويتلقاه دون تفكير نقدي.
السّرد المجزأ
هذا المشهد العالمي الذي تتظافر وسائل الإعلام والمنصات الاجتماعيّة على خلقه حول غزّتنا يعجز بمجموعه عن تقديم صورة متكاملة أو متجانسة للصراع، إذ يُجزأ الواقع إلى فسيفساء من «لقطات» صغيرة، ومقاطع فيديو قصيرة، وصور منفصلة. كل من هذه اللقطات تُقدم قطعة من المعلومات، لكنها غالباً ما تفتقر إلى السياق الأوسع الذي يربطها ببعضها البعض وبجذور الصراع التاريخية، والسياسية، والأيديولوجيّة، والاقتصادية. وهكذا ننتهي بدلاً من فهم الصراع كعملية تاريخية معقدة، يُقدم إلينا على أنه سلسلة من الأحداث المعزولة، كل منها يتطلب رد فعل فوري أو تعليقاً سطحيّاً، وتُغرق المشاهد في دائرة «العاجل» و «ما يحدث الآن»، دون التعمق في «لماذا يحدث هذا كلّه».
هذا السرد المجزّأ يعني أننا نرى صوراً للمعاناة، لكننا لا نرى بالضرورة العلاقات الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية التي أدت إلى هذه المعاناة أو التي تُبنى عليها المقاومة والصمود. فما نشاهده غالباً هو النتيجة، وليست العمليّة التي أسفرت عنها تلك النتيجة.
لا شيء نشاهده من هناك بالصدفة
إن «المشهد» بشأن غزة حرب معلوماتية شرسة لا تنفصل عن المجهود الحربي لآلة العدوان الإسرائيلي، حيث يفرض الكيان روايته الخاصة من خلال الهيمنة شبه التامة على الصور والمعلومات، ومعنى تلك الصور والمعلومات.
يجب أن نتذكر هنا أن لا عمل صحافياً ممكن في غزّة دون الالتحاق بقوات الجيش الإسرائيلي، فيما يُستهدف بلا هوادة كل صحافي فلسطيني قد ينقل صورة لا تتوافق مع السردية الإسرائيلية. لقد قتل الجيش الإسرائيلي حتى الآن 232 صحافياً في القطاع منذ السابع من أكتوبر 2023، مقارنة مثلاً بمجموع 69 صحافياً قتلوا طوال ست سنوات من الحرب العالمية الثانية.
وفوق ذلك كلّه تسيطر الدولة العبرية على مرور الأنترنت إلى غزّة، وتتحكم – بتواطؤ صار معلوماً من قبل شركات التكنولوجيا الكبرى – بالمحتوى الفلسطيني وتوجهه إلى قنوات آمنة لا تزعج تل أبيب، ناهيك عن اختراق مواقع التواصل من قبل حساب وهمية يمكنها تزييف الصور، التلاعب بالمقاطع، أو إخراج المعلومات من سياقها لتشويه المعنى الأصلي بمساعدة الذكاء الاصطناعي وتقنيات التزييف العميق.
هذه السيطرة على المشهد من قبل طرف دون الآخر، تضمن استخدام الصور ومقاطع الفيديو لتأطير الواقع بطريقة معينة، حيث الهدف ليس نقل الحقيقة، بل تشكيل ما يسميه ديبور بالواقع الزائف، ودائماً بما يخدم أهداف الطرف المسيطر، مع تركيز أنظار العالم إلى جوانب معينة من الصراع، وتشتيت الانتباه عن الأسباب الجذرية، مثل الاحتلال، والحصار، وسياسات التمييز، والتطهير العرقي الممنهج المبني على أسس أيديولوجية واستعماريّة.
استعراض أخلاقي عديم التأثير
لقد حولت هندسة المشهد الحرب على غزة إلى مهرجان «استعراض» أخلاقي عالمي، حيث يتنافس الأفراد والكيانات على إظهار «موقفهم الأخلاقي» من خلال مشاركة المحتوى، أو التعليق العابر، أو التعبير عن السخط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يمكن للمشاهد عرض موقفه الأخلاقي دون الحاجة بالضرورة إلى انخراط حقيقي أو فعل ملموس. هذه الفضيلة المقتصرة على (إبداء الإعجاب) و(مشاركة المنشورات) تفرغ الفعل الأخلاقي من محتواه الحقيقي، وتحوله إلى مجرد كومبارس آخر لزوم استكمال المشهد.
هل من فكاك من حكم «المشهد»؟
مع كل هذا التغوّل الغربي / الإسرائيلي على إدارة المشهد، ليس سهلاً للإنسان العادي اليوم التخلي عن الشاشات الكبيرة أو الصغيرة كمصادر يومية لتلقي المعلومات عن العالم ككل، وتحديداً عن غزّتنا. ولكن كيف يمكنه وهو المبتلى بتلك الشاشات تجاوز مربع التعاطف مع سيل الصور المُقدمة عن الإبادة المستمرة إلى دائرة الفهم النقدي لها وفك شيفرة المشهد المقدّم من الغرب -الكيان للبحث عن الواقع الحقيقي خلفها؟
لا توجد وصفة جاهزة لإعانتنا على تجاوز عناوين الأخبار اللحظيّة والمقاطع القصيرة إلى الغوص في التحليلات المتعمقة، والتقارير المستقلة، وقراءة التاريخ لإدراك الطبيعة العنصرية الإجرامية للمشروع الصهيوني في بلادنا ومدى تشابكه العضوي مع الغرب، ومن ثم تحويل الوعي النقدي إلى فعلٍ كلٌ حسب موقعه وظروفه، سواء كان ذلك من خلال الضغط السياسي، أو العمل الإنساني، أو حتى من خلال المساهمة في نشر معلومات دقيقة وواعية للآخرين في دائرة تأثيرنا الشخصيّ.
على أن كسر سيطرة المشهد الإعلاميhttps://dabapress.com/215863/ وفك شيفرته ممر إجباري لا بد منه إذا كنا نأمل في بناء تصور غير مفلتر أو مجزأ لواقع الإبادة المستمرة في غزة، والتحول من جمهور سلبي أدمن المعاقرة اليومية للمعاناة إلى جمهور فاعل يشارك في مواجهة العدوان، وتحقيق ولو شيء من العدالة لشعبنا الفلسطيني المظلوم.