في صباحٍ كئيب من صباحات المحمدية، خمدت أنفاس شابٍ لم يُعرَف اسمه، لكن ألمه صار عنوانًا لوجع جماعي يزحف بصمت.
كان جسده يحترق، لكن الحقيقة أن ما اشتعل فعلاً هو الغضب المدفون في صدور آلافٍ من أمثاله ” ضحايا ضغطٍ اجتماعي واقتصادي” لم يترك لهم سوى الاختيار بين الموت البطيء أو الاحتراق الفوري.
في حيّ الأمل بعين حرودة، لم يكن في الأمر شيء من الأمل
هناك، وبالقرب من مقهى شعبي يشهد يوميًا أحاديث البطالة والخذلان، أفرغ الشاب على جسده مادة “الدوليو” القابلة للاشتعال، وأشعل فيها النار أمام أعين المارة المذهولين، صرخات اختلطت بين الهلع والعجز، وأيادٍ حاولت عبثًا إطفاء النيران التي كانت تلتهم روحه قبل جسده، لكن الحقيقة أن ألسنة اللهب كانت أقوى من الماء، وأقسى من النظرات المرتبكة.
نُقل الضحية أولًا إلى مستشفى مولاي عبد الله، ثم إلى قسم الحروق بالمستشفى الجامعي ابن رشد في الدار البيضاء، حيث بقي يصارع آلامًا تفوق الوصف حتى أسلم الروح صبيحة الجمعة، وفاته كانت النهاية الظاهرة لمأساةٍ شخصية… لكنها بداية لمساءلةٍ وطنية.
فتحت عناصر الدرك الملكي تحقيقًا لمعرفة دوافع الحادث، لكن السؤال الأعمق يظل معلقًا دون إجابة: ما الذي يدفع شابًا إلى أن يحرق نفسه علنًا، في وضح النهار، وسط الناس؟
الإجابة ليست في زجاجة “الدوليو”، بل في زجاجة مجتمع مكتوم، منهك، تآكلت فيه القدرة على الحلم.
لا يتعلق الأمر بحادث فردي معزول، بل بجزء من ظاهرة تتفاقم في صمت، حيث تشير الوقائع إلى تصاعد حالات الانتحار أو محاولاته بين الشباب المغربي، في ظل انهيار منظومات الدعم النفسي والاجتماعي.. لا مؤسسات كافية، لا آذان صاغية، ولا سياسات عمومية تستشعر الخطر الداهم في الأحياء الهامشية ومناطق الظل.
الضحية لم يترك رسالة، لكن جسده المحترق كتب على الإسفلت بيانًا من نار، صرخةً غير قابلة للمحو.ة، فما جرى في عين حرودة ليس حادثًا غامضًا كما وُصف، بل نتيجة واضحة لمنظومة فاشلة في التقاط أنين أبنائها، حادث يعيد إلى الواجهة حقيقة مُرَّة: الانتحار، خاصة عبر الحرق الذاتي، لم يعد سلوكًا فرديًا شاذًا، بل مؤشرًا دامغًا على أن فئةً من المجتمع تعيش حالة اختناق جماعي، وتبحث عن أبواب للهروب، حتى لو كانت أبواب النار.
في انتظار ما ستكشفه التحقيقات، يبقى الأكيد أن هذا الشاب لم يمت وحده، بل مثّل آلافًا يعيشون بيننا، يحترقون في صمتٍ، كلٌّ بطريقته.
مأساة اليوم يجب ألا تمر كعنوان مألوف في الأخبار، بل كجُرحٍ يُفتح على مصراعيه: إلى متى نظل ندفن الألم تحت الرماد؟