تحقيق..الرباط و حين تتحول محطة القطار بالعاصمة عنوانا للإهمال
13/06/2025
0
بقلم: بثينة المكودي
تحقيق..تحقيق
في كل دول العالم، تُعد محطات القطارات الكبرى مرآة لحركية المدن، ورمزًا لعراقتها وحداثتها، غير أن محطة “الرباط المدينة” تقدم وجه آخر لعاصمة المغرب، وجه تغمره الفوضى، ويُغلفه الإهمال، وتحاصره الأشغال غير المنتهية، في مفارقة تثير الاستغراب والسخط على حد سواء.
تاريخ عريق يئن تحت الركام
تأسست محطة الرباط المدينة سنة 1923، في عهد الحماية الفرنسية، بتصميم يجمع بين الفن الزخرفي والمعمار الاستعماري. لعقود طويلة، كانت المحطة نقطة عبور رئيسية، ومعلما يربط المدينة بنبضها الوطني، لكنها اليوم تشهد تحللا تدريجيا، وسط محاولات ترميم متعثرة، وواقع بنيوي لا يليق لا بموقعها الاستراتيجي ولا برمزيتها في قلب العاصمة.
وعود متكررة وأشغال لا تنتهي
منذ سنة 2008، بدأ المكتب الوطني للسكك الحديدية أولى أشغال التهيئة، لكن دون أثر فعلي يعكس حجم الوعود. في 2016، أُعلن عن مشروع ضخم لتحديث المحطة بكلفة 450 مليون درهم، غير أن المشروع واجه عراقيل تقنية وثقافية، من بينها تحفظ منظمة اليونسكو على التأثيرات البصرية للمشروع على الجدار التاريخي
في سنة 2024، تم الإعلان مجددًا عن استئناف الأشغال، لكن الواقع الميداني ينطق بعكس ذلك. فمنذ أزيد من عام ونصف، تسير الأشغال بوتيرة متقطعة أو تكون متوقفة بالكامل، دون أي توضيحات رسمية، ودون مؤشرات تُبشّر بقرب نهاية الأشغال.
اليونسكو تقف على الخط.. حماية التاريخ قبل الإسمنت
لم يكن تعثر مشروع تحديث محطة الرباط المدينة ناتجًا فقط عن إكراهات تقنية أو مالية، بل تعقد المشهد أكثر بعد تدخل منظمة اليونسكو، التي أبدت تحفظات صارمة على مخططات إعادة بناء الواجهة الحديثة للمحطة.
فالموقع التاريخي للمحطة يقع ضمن النطاق العازل للمدينة العتيقة المصنفة ضمن قائمة التراث العالمي منذ سنة 2012، وهو ما يُخضع أي تدخل عمراني لمعايير صارمة تضمن حماية المشهد المعماري والتاريخي العام.
وقد اعتبرت المنظمة أن التصاميم الجديدة ستُحدث “قطيعة بصرية” مع الجدار التاريخي المعروف بـ”سور المعاضيد”، ما سيؤثر سلبًا على وحدة الطابع العمراني للمنطقة.
في تصريح لمصدر من وزارة الثقافة، فضّل عدم الكشف عن اسمه،
قال “التحفّظ الذي عبرت عنه اليونسكو لا يتعلق برفض التحديث، بل بطريقة التحديث، فالأمر يفرض اعتماد تصاميم مندمجة تحترم ذاكرة المكان ولا تطمس عناصره الأصلية، وهو ما لم يتوفر بشكل كاف في النموذج المعماري الأولي.”
هذا التوتر بين ضرورات الترميم ومتطلبات حماية التراث ساهم في شلل الأشغال لسنوات، دون أن تسفر المفاوضات بين الجهات المشرفة واليونسكو عن توافق نهائي، وهو ما عمّق تعثّر المشروع وترك المحطة في حالة من النسيان المؤسسي.
مسافرون في مواجهة الإهمال
داخل المحطة، المشهد لا يختلف عن ورش مهجور: أرصفة قطارات متآكلة، مصاعد معطلة، ممرات ضيقة، ولافتات إلكترونية خارج الخدمة. المرافق الصحية تغيب أو تفتقر إلى الحد الأدنى من النظافة، أما قاعات الانتظار فتفتقر للراحة والتهوية.
الازدحام هو السمة اليومية، وغياب الأمن الفعال يثير القلق، كما حدث في مارس الماضي حين اقتحم شخص ثلاثيني المحطة، وتسبب في حالة من الذعر بين الركاب، في ظل غياب أي تدخل فوري من الجهات المعنية.
محطة خارج حسابات التحديث
في وقت تضخ فيه الدولة استثمارات هائلة في مشاريع السكك عالية السرعة، مثل ربط طنجة بمراكش مرورا بالرباط ضمن برنامج تبلغ كلفته 96 مليار درهم، تبقى محطة الرباط المدينة خارج أولويات التحديث، وكأنها تنتمي إلى مدينة أخرى، لا إلى العاصمة السياسية والإدارية للمملكة.
شهادات من المسافرين:
تقول فاطمة، موظفة (43 سنة): “المصاعد لا تشتغل، والازدحام لا يُطاق، نشعر أننا في محطة نُسيَت من الجميع”.
ويضيف ياسين، موظف بإدارة الشؤون الاجتماعية،“طول انتظار واللافتات غير مضبوطة، والمحطة تتخبط في الفوضى، وإصابات بسبب سقوط بعض المسافرين المتقدمين في السن ولا أحد يشرح للمسافرين أي شيء، أما الولوجيات لمن هم في وضعية اعاقة فحدث ولا حرج منعدمة تماما.
أما بالنسبة لجريدة “دابابريس”،فكانت الصدمة، التي توقعت واجهة حضرية تليق بالعاصمة، فوجدت ورشًا متوقفًا منذ سنوات.”
غياب المحاسبة وتواصل شبه منعدم
الأزمة لا تكمن فقط في البنية التحتية، بل تتعمق أكثر بفعل غياب الشفافية والمساءلة، المكتب الوطني للسكك الحديدية لا يُقدّم أي بيانات رسمية عن سبب التأخر، ولا يضع جدولا زمنيا محددا لإنهاء الأشغال. كما يغيب أي تواصل فعلي مع المرتفقين أو عرض لدفتر تحملات يُربط فيه الإنجاز بالمحاسبة.
“آلاف المسافرين يوميا.. والكرامة معلقة”
بالرغم من الإهمال، لا تزال المحطة تستقبل آلاف المسافرين كل يوم، لكنها تفعل ذلك بـ”جراح مفتوحة”، وسط خدمات ناقصة وصورة حضرية باهتة لا تليق بمدينة تتحدث عن التحول الرقمي والانتقال الحضري.
ما تحتاجه محطة الرباط المدينة ليس مشاريع عملاقة، بل إرادة سياسية واضحة، تسيير عقلاني، التزام زمني صارم، وإشراك المواطن في مسار الإصلاح، حتى لا تبقى العاصمة مرهونة ببوابة مهترئة تعكس التخبط أكثر مما تعكس التقدم.
في المقابل، يوضح مصدر من داخل المكتب الوطني للسكك الحديدية، فضّل بدوره عدم ذكر اسمه، أن المشروع لم يُجمّد بالكامل، بل خضع لإعادة تقييم هندسي ومعماري بتنسيق مع الجهات المعنية، وأضاف:
“نحن ندرك حساسية الموقع من الناحية التاريخية، ولذلك اشتغلنا على مراجعة التصاميم الأولية لتتلاءم مع متطلبات اليونسكو، دون أن نفرط في المعايير الحديثة للسلامة وجودة الخدمات. الأمر يتطلب توازناً دقيقاً، ونحن نشتغل عليه ضمن مقاربة تراعي مختلف الأطراف.”
غير أن هذا التوضيح لم يكن كافيًا لطمأنة المسافرين والمواطنين، في ظل غياب أي إعلان رسمي عن موعد استئناف فعلي للأشغال أو جدول زمني واضح لانتهاء المشروع، ما جعل من محطة الرباط المدينة مثالًا صارخًا على فجوة التواصل بين الإدارة والمرتفقين.