الرئسيةثقافة وفنونروبرتاج

حين ترقص المدينة على إيقاع الحرية

بقلم: بثينة المكودي

في باريس، حيث تُقاس اللحظات بجمال الفكرة، لا شيء يشبه اليوم العالمي للموسيقى. ليس مجرد مناسبة، بل طقسٌ مدنيّ بامتياز، ينزع ربطة العنق عن عنق المدينة، ويفكّ عُقد الباريسيين، لتصبح الأرصفة مسارح، والميادين مواويل، وكل شيء قابل للغناء.

منذ صباح 21 من يونيو الجاري، بدت العاصمة الفرنسية كأنها لا تحتفل فقط بالموسيقى، بل بالحياة ذاتها، لا جدران للفن هنا، لا تصاريح، لا تذاكر، الحرية وحدها هي البطاقة.

موسيقيون محترفون وهواة، فرق محلية وعالمية، آلات خشبية وأخرى رقمية، الكل يخرج إلى الضوء، في مشهد كأنما ينفض عن المدينة صمت الأيام الرمادية.

الشمس لا تشرق على باريس كما تفعل في سواها، لكنها في هذا اليوم بالذات، بدت متواطئة مع الفرح، حرارة الصيف كانت لذيذة، مزيجا من دفء الأجساد والألحان.
حيث جميع الأحياء من “بيلفيل” إلى “مونبارناس”، من “لي مارى” إلى “لاتين كوارتير”، اهتزّت على وقع نغمات الساكسوفون، وصخب الطبول، ودفء الغيتار.

كلمات من القلب

يقول أحد المشاركين في جوقة كاريوكي ضخمة أمام دار الثقافة العربية:Je chante mal chez moi, mais ensemble, on ale sentiment de bien chanter

«أغني بشكل سيء في البيت، لكن معا نحس أننا نغني جيدًا!»

“هذا هو سر السحر لا تجويد حرفي، بل توقّع جماعي للمتعة.”

شوارع كانت أمس تعارك الاكتظاظ نحو العمل، تحولت اليوم إلى رقصات غير مبرمجة، وغناء جماعي تحت نوافذ لا تمانع الضجيج الجميل.
خرج كبار السن بخطى مترددة لكن بعيون لامعة، والشباب علقوا مخاوف الغد على شماعة المايكروفون، وأما الأطفال فقد رقصوا كأن الأرض كلها ملك لاحلامهم .

ليست الموسيقى هنا فنا فقط، بل استراحة حقيقية من صرامة القانون، ورهبة السياسة، وازدحام العقل؛ هي الطريقة الوحيدة التي لا تحتاج إلى ترجمة، لتقول إن الإنسان لا يقاس فقط بما ينجز، بل بما يُحس.

وبين حفل عشوائي في زاوية شارع، وجوقة منظمة في ساحة عمومية، تعلّمت المدينة كيف تصغي لنفسها من جديد، لا شيء منظم بالكامل، ولا شيء فوضوي تماما، إنها فوضى محسوبة، فيها نوع من التمرد النبيل، الذي لا يؤذي أحد، لكنه يعيد ترتيب الداخل.

“يوم عالمي للموسيقى؟ بل يوم عالمي للانعتاق.”

في هذا العناق بين الحرية وحرارة الشمس، شيء من الشفاء، كأن باريس، ولو ليوم واحد، قررت أن تعيش بلا أقنعة، وتدع قلبها يغني.

حضور عربي وأمازيغي لا يخطئه السمع

،وفي زحمة الأصوات واللهجات، لا يمكن أن تخطئ أذنك تلك النبرة الدافئة القادمة من المشرق والمغرب ، أو إيقاعات الدربوكة الافريقية ،  فباريس، التي تُعد من أكثر العواصم تنوعا، تحتضن في أحشائها جالية عربية وأمازيغية  تُقدّر بمئات الآلاف، لا تعيش فقط في الهامش كما يُراد لها أحيانًا، بل تشارك في صنع المشهد الثقافي والفني، وتُغني أرصفة المدينة بموسيقاها وأحلامها ولهجاتها.

من حي “باربيس” إلى ضفاف السين، من مطاعم الكسكس إلى مقاهي الشيشة، ومن فرق الراي إلى شعراء الجنوب المغربي، يمتد هذا الحضور ليقول نحن هنا، نحيا ونغني ونتنفس حرية لا نُطالَب فيها بشيء سوى أن نكون بشرًا.

لكن السؤال  يظل عالقًا لماذا تُفك القيود هنا، وتتعقّد هناك؟

لماذا يُسمح للمهاجر أن يغني في باريس، ويُمنع من الحلم في بلده الأصلي؟

هل الحرية بحاجة إلى تأشيرة؟ أم أن المشكل ليس في الأرض بل في من يحرثها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى