
في الوقت الذي تنتظر فيه الأسر المغربية نسائم الانفراج الاقتصادي، خرج بنك المغرب بتقرير جديد يعرض أرقاماً مطمئنة في ظاهرها، لكنها تطرح أكثر مما تجيب فعندما نخوض في تفاصيلها نجد ان القروض الموجهة للقطاع غير المالي ارتفعت بنسبة 3.9% خلال الفصل الأول من سنة 2025.
ارتفاع لا يبدو صادماً من حيث الحجم، لكنه يختزن مؤشرات دقيقة على ما يمكن وصفه بـ”الهشاشة المعممة“، حيث تتحول القروض تدريجياً من وسيلة تمويل منتجة إلى طوق نجاة للمقاولات والأسَر على حد سواء، في سياق يتسم بتباطؤ النمو، واستمرار الضغوط التضخمية، وتزايد الدين العام، وسط غياب رؤية شاملة للإقلاع الاقتصادي الحقيقي.
قروض الأسر… حين يصبح الدين أسلوب حياة
بحسب بنك المغرب، ارتفع حجم القروض الممنوحة للأسر بنسبة 2.6% مقارنة بـ 2.3% في الفصل السابق، وبرزت قروض الاستهلاك كأكثر أنواع التمويلات نمواً، منتقلة من 2.1% إلى 2.9%، متبوعة بقروض السكن التي ارتفعت من 1.7% إلى 2%.
لكن المفارقة الصادمة هي أن هذا النمو في القروض لا يعكس انتعاشاً في القدرة الشرائية، بل يكشف عن لجوء الأسر إلى التمويل الاستهلاكي لتغطية النفقات الأساسية، في ظل تآكل الأجور واستمرار الأسعار في الصعود رغم الأرقام المتفائلة ففي الفصل نفسه، سجلت المندوبية السامية للتخطيط ارتفاعاً في مؤشر التضخم بلغ 2.2%، مدفوعاً بزيادة أسعار المواد الغذائية بنسبة 3.7%.
ومع غياب الدعم الاجتماعي المباشر وارتفاع كلفة الحياة، لم يعد القرض مجرد خيار، بل ضرورة للبقاء على قيد “العيش الاقتصادي”، وإن كان بثمن باهظ يدفعه المواطن لاحقاً مع الفوائد والاقتطاعات البنكية التي قد تمتد لسنوات.
المقاولات الخاصة… تمويل من أجل الصمود لا التوسع
في الجانب المقابل، ارتفعت القروض الممنوحة للمقاولات الخاصة من 2.1% إلى 2.3%. ورغم ضآلة الفارق، إلا أن الأرقام تخفي حقيقة مرة.. فأغلب هذه التمويلات تُوجَّه لتغطية النفقات الجارية أو إعادة جدولة الالتزامات، وليس لتوسيع النشاط أو الاستثمار في الإنتاج والتشغيل.
بلغة أخرى، التمويل في المغرب بات دفاعياً لا هجومياً و تحوّل من أداة للنمو إلى وسيلة للبقاء، والسبب؟ مناخ استثماري متقلب، وإشكاليات ضريبية مستمرة، وآجال أداء طويلة، وأبناك ما تزال متحفظة في تعاملها مع المقاولات الصغيرة والمتوسطة، رغم وجود برامج دعم حكومية.
المثير هنا أن القروض العقارية الموجهة للإنعاش العقاري قفزت بنسبة 9.8%، ما يطرح سؤالاً حول من يستفيد فعلاً من السياسة المالية للدولة: هل هي المقاولة الإنتاجية؟ أم “مافيا العقار” التي تبتلع الأراضي والمدن وتُكرّس الريع؟
الشركات العمومية… شهية مفتوحة للتمويل بلا مردودية
أشار التقرير نفسه إلى تباطؤ في وتيرة القروض الموجهة للمقاولات العمومية، منتقلة من 11.9% إلى 10.5%، وقد يُفهم ذلك، للوهلة الأولى، على أنه مؤشر على عقلنة الإنفاق، لكنه يخفي واقعاً آخر.
فيما تستفيد الشركات العمومية منذ سنوات من تمويلات ضخمة، تُتهم بشكل متكرر بسوء التدبير، وبتنفيذ مشاريع مكلفة دون أثر تنموي ملموس، فالملاعب الضخمة، وطرق السيارة ذات الجدوى المحدودة، والمنشآت غير المُستغلة، كلها أمثلة حية على كيف يمكن للتمويل أن يتحول إلى نزيف صامت للمال العام.
ولعل هذا ما دفع بنك المغرب إلى التلويح في أكثر من مناسبة بخطورة الاعتماد المفرط على التمويلات دون رقابة حقيقية، خصوصاً مع تنامي الدين العمومي الذي تجاوز عتبة 1,050 مليار درهم نهاية 2024، وفق تقرير وزارة الاقتصاد والمالية.
الدين المتعثر… قنبلة موقوتة في قلب البنوك
في أبريل 2025، كشف البنك المركزي عن ارتفاع الديون المتعثرة بنسبة 4.5%، لتبلغ ما يُعادل 8.7% من إجمالي القروض.
هذه النسبة خطيرة، لأنها تعني أن جزءاً متنامياً من المدينين لم يعد قادراً على الوفاء بالتزاماته، سواء كانوا أسرًا أو مقاولات.
هذا الوضع دفع والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، إلى الإعلان عن أول عملية توريق للديون المتعثرة في تاريخ القطاع البنكي المغربي، والهدف منها هو تحويل هذه الديون إلى أوراق مالية قابلة للبيع، أي نقل عبء الخسائر المحتملة إلى المستثمرين.
لكن، وبلغة الاقتصاد السياسي، هذا الإجراء لا يعالج جذور المشكلة، بل يُجمّلها، ويُنقلها إلى مستوى أعلى من التعقيد، وربما من الخطر.
الفائدة تنخفض… لكن من يستفيد فعلاً؟
و في محاولة لتشجيع التمويل وإنعاش الطلب، قرر بنك المغرب خفض سعر الفائدة الرئيسي إلى 2.25% في مارس 2025، بعدما كان عند 3%، ورغم ذلك، ما زالت معدلات الفائدة البنكية على القروض الاستهلاكية والعقارية مرتفعة نسبياً، ما يجعل أثر القرار محدوداً على المواطن.
أما الأبناك، التي تواصل جني أرباح مهمة من الفوائد، فهي تستفيد من الفجوة بين الفائدة المرجعية والفائدة المطبقة، دون أن تُترجم أرباحها إلى مزيد من التسهيلات أو دعم مباشر للمقاولات الناشئة.
اقتصاد يقترض أكثر مما يُنتج
ما تكشفه هذه المؤشرات، رغم ظاهرها الإيجابي، هو أننا أمام اقتصاد قائم على الاقتراض وليس على الاستثمار المنتج، اقتصاد يُنعشه الدين لا الإبداع، ويغذيه الاستهلاك لا التصدير، وتُحرّكه التطمينات الرقمية بدل الإصلاحات الهيكلية.
فحين يصبح المواطن مدينًا لاقتناء المواد الأساسية، والمقاول مرتهنًا للبنك بدل السوق، والدولة ممولة من نفسها عبر الاقتراض الداخلي، فإن البنية الاقتصادية تفقد صلابتها، وتصبح عرضة لأي اهتزاز خارجي بسيط.
إن المطلوب اليوم ليس فقط التحكم في نسب الفائدة، بل إعادة توجيه القروض نحو النمو الحقيقي.. بدعم الاستثمار الصناعي، تحفيز الابتكار، تمويل المشاريع الخضراء، والحد من هيمنة القطاع العقاري على التمويل.
فالأرقام وحدها لا تصنع التنمية، والاقتصاد القوي هو ذاك الذي يُولّد الثروة قبل أن يوزع القروض.