“أرواحنا في الليل”: حين تأتي الرفقة متأخرة..لكنها تأتي
02/07/2025
0
إعداد الاعلامي والكاتب عبدالعزيز كوكاس
في زمن تهيمن عليه الصدمات السردية ومشاهد الانفجار الدرامي في السينما، ينفلت فيلم “أرواحنا في الليل” كخرير نهر هادئ بين ضوضاء الحكايات الصاخبة.
الفيلم، الذي أخرجه ريتيش باترا باقتباس عن رواية كينت هاروف، هو عمل تأملي عميق عن الحب والوحدة والمصالحة المتأخرة مع الحياة، حيث تُصبح الرغبة في ألا ننام وحيدين أهم من أي شغف آخر. يعالج هذا الفيلم البسيط والمؤثر والمكتوب بأناقة ملفتة، مسألة التوق إلى بلسم الشفاء عبر الحديث الصادق والكشف عن الألم مما تتسببه الوحدة في خريف العمر.
لقاء خافت في ضوء خافت
يدور فيلم “أرواحنا في الليل Our Souls at Night حول أدي (جين فوندا) ولويس (روبرت ريدفورد)، جاران مسنان يعيشان في نفس الحي لسنوات عديدة لكنهما لا يعرفان بعضهما البعض جيدا.
كلاهما أرمل ووحيد معظم الوقت. بشجاعة، تظهر آدي على باب لويس: “أتساءل عما إذا كنت ستفكر في القدوم إلى منزلي أحيانا للنوم معي؟”، وحين اكتشفت دهشة وحيرة لويس، أوضحت آدي أنها لا تقصد ممارسة الجنس ولكن مجرد الاستلقاء في السرير برفقتها والحديث لقتل الوحدة التي تنشب أظافرها في ليالي الشيخوخة الطويلة.
“الليالي هي الأسوأ” تقول ويوافقها لويس الذي سيقفز ليلا إلى منزل أدي ومعه كيس ورقي بداخله بيجامة وفرشاة أسنان.
هكذا يبدأ الفيلم، لا بانفجار درامي بل بنبرة شبه هامسة، كأننا نلج أرواح الشخصيتين لا من خلال الأحداث، بل من خلال الصمت. الزمن ليس مجرّد سياق بل هو سؤال معلّق: هل تأخّرنا في الحب؟ وهل يمكن للوحدة أن تمحى بالحديث فقط؟
لا يهتم فيلم “أرواحنا في الليل” بإعادة الزمن إلى الوراء، بل يتوقف عند ما تبقى منه. ماضي الشخصيتين مليء بالخسارات: علاقات فاشلة، أبناء منبوذون، قرارات لم تُصحح. ورغم ذلك، لا يقدّمهما الفيلم كضحيتين بل ككائنين قررا، أخيرًا، التوقف عن الاختباء.
ولا يستدرجنا الفيلم إلى عاطفة مبتذلة، بل يقودنا إلى أسئلة وجودية تهمّ كل كائن بشري في مواجهة وحدته: ماذا يعني أن نحب في خريف العمر؟ وهل يحتاج الحب إلى وعود، أم يكفي أن يأتي، دون خوف، ليضيء ما تبقى؟
كاميرا تصغي لا تتلصص
يواصل ريتيش باترا، المعروف بحساسيته العالية للتفاصيل الصامتة، هنا كتابة الشعر بالصورة. تراقب كاميراته ببطء مشية الشخصيتين، جلوسهما، نظرات التردد والانجذاب. الألوان دافئة لكنها باهتة قليلاً، كأنها تقف على الحافة بين الحياة والموت، بين الحنين والانطفاء.
لا وجود للموسيقى الزائدة أو العبارات المنمقة. حتى الحوارات تبدو كأنها خُطّت على مهل، بأقلام شخصين اعتادا الصمت أكثر من البوح.
هناك تيار خفي من الدعابة على طول الفيلم، مع الحفاظ على كرامة العاشقين المسننين. كيفية قيام لويس بتغيير ملابسه الملفوفة بشكل مرتب أثناء التسلل إلى منزل أدي كل مساء.
وفي أول ليلة لهما معا يتشاركان السرير، شعرت آدي بارتياح شديد لوجود جسد رجل دافئ بجانبها، وبدأت في الشخير بمجرد أن وضعت رأسها على وسادتها. يتضمن جزء كبير من الفيلم هؤلاء الغرباء القريبين من ملء تفاصيل ماضي العاشقين.
الزوجة السابقة للويس التي توفيت وابنته، وتشرح آدي كيف قُتلت ابنتها الصغيرة على يد سائق بعد أن هربت إلى الشارع. وابنها الذي سيغضب في البداية من علاقة أمه بشيخ مسن قبل أن يتكيف مع خيارات والدته، ويكون العجوزان الأنيقان خير رفيق لابنه.
فوندا وريدفورد: رقصة الأرواح الأخيرة
فلم “أرواحنا في الليل” الذي يستند إلى رواية كينت هاروف بعنوان “صندوق الغداء” “Lunchbox”، يفتح قلوبنا وعقولنا للعطاء والسعي المؤثر لعجوزين للتواصل مع المعنى والهدف في المرحلة الأخيرة من حياتهما، جين فوندا وروبرت ريدفورد يجتمعان للمرة الرابعة في تاريخهما السينمائي، لكن هذه المرة ليس ليكونا رمزين للرومانسية، بل شاهدين على ما تبقى منها.
فوندا تقدم شخصية قوية، الروح الجريئة والحرة التي تقوم بالخطوة الأولى وتكسر الجليد في إقامة علاقة، تمنح فوندا شخصية آدي مزيجًا من القوة والندم، امرأة تتحدث بجرأة، تطلب الرفقة بصراحة غير معهودة في النساء في عمرها. رغم أنها مجروحة من الداخل فهي لا تزال تحلم. بينما ريدفورد قلق متوتر يتسلل من الباب الخلفي لمنزل أدي حتى لا يتحدث الناس عنه بسوء. بوجهه المحفور بالتجاعيد ونظراته المعلقة، يجسّد رجلاً يبحث عن إعادة تعريف نفسه، بعد أن خذله الماضي أكثر مما خذله الآخرون، يؤدي ببراعة دور شخصية خجولة، مُثقلة بالصمت، ويمنحها تدرجات من الكآبة والتردد والحنان، دون أن يفقد كرامتها.
لقاء جين فوندا وروبرت ريدفورد في هذا الفيلم ليس مجرد حدث سينمائي، بل محجّ عاطفي لكل من تابع مسيرتهما. لم يعودا رمزين لجاذبية الستينيات، بل شاهدين على ما تبقى من الحلم، حين يتصالح الجمال مع الشيخوخة. لا يعتمد الأداء على الحوار، بل على الإيماءات، نظرات العيون، تلعثمات الصوت، إمالة الرأس، تلك اللغة الجسدية التي تبرع فيها السينما الصامتة، ويعيد إحياءها هنا اثنان من أكثر نجوم هوليوود خبرة وهدوءاً.
الحميمية كفعل إنساني، لا غريزي
ما يثير الإعجاب في الفيلم هو غياب الجسد لصالح الروح. هناك تقشُّف الجسد. لا مشاهد حميمية تقريباً، رغم أن الفيلم يدور حول “المبيت” معاً. الرغبة لا تُترجم إلى فعل، بل إلى نوع من الحضور الأنيق: أن يكون الآخر هناك، أن يصغي، أن لا يهرب، أن لا يحكم.
إنه نوع من الحميمية المتجاوزة للجسد، أقرب إلى العزاء والرغبة في ألاّ نموت وحدنا. هنا يلمس الفيلم تربة فلسفية عميقة، دون وعظ أو تنظير: إن حاجتنا في وحدة الشيخوخة ليست للدهشة أو الإثارة، بل للاطمئنان، للاعتراف، للحب الذي لا يُطلب منه أن يثبت شيئاً. حب فقط ليؤنس القلب.
لا وجود لمشاهد إيروسية، رغم الاقتراب الجسدي. فالرغبة هنا هي رغبة في المشاركة والتقاسم، في أن يشعر الإنسان بأنه مرئي من جديد.. حيث يقدم ريتيش باترا نموذجًا مغايرًا تمامًا للصورة النمطية للحب في السينما: لا بطولات، لا تضحيات هوليودية بل مجرد يدين تلتقيان في الظلام، لتقولا لبعضهما: “أنا هنا”.
نهاية بلا يقين.. كالحياة تمامًا
ينتهي فيلمOur Souls at Night بتلك المنطقة الرمادية التي تُشبه الحياة أكثر مما تُشبه القصص: لا لقاء سعيد ولا فراق قاطع.. لا تنتهي اللقطات الأخيرة بنشوة اللقاء، بل بانفصال هادئ تفرضه ضغوط الأسرة والخوف من الفضيحة. ومع ذلك، تبقى النافذة مفتوحة، يُترك الهاتف يُرن، ويُترك السؤال دون جواب نهائي. هل الحب ممكن حتى في ظل الانكسارات؟ الفيلم لا يجيب، لكنه يتركنا مع ذلك الشعور الحميمي: حتى وإن فشلنا، فقد حاولنا. وهذا، في النهاية، أكثر ما يمكن أن نرجوه من الحياة.. حين يترك الحبيب الرسالة دون جواب لا نشعر أن الحب انتهى، بل أن الحياة تستمر رغم كل شيء. إنها نهاية مفتوحة على احتمالات الروح، حيث لا يكون الفشل خسارة نهائية، بل مجرّد توقّف مؤقت في سعي الإنسان ليكون أقل وحدة.
فيلم “أرواحنا في الليل” ليس عن الشيخوخة أبدا بل عن الرغبة التي لا تموت، حتى وإن انحنت أمام ثقل الزمن. إنه فيلم كبير في ما يطرحه من قضايا إنسانية، بعمق نادر وبصمت يوقظ فينا أعنف المشاعر. ففي زمن تمجيد الشباب والسطحية، يأتي هذا العمل كقصيدة بطيئة عن معنى أن نكون معًا، حتى عندما ينهار كل شيء من حولنا، وحتى عندما لا يبقى من أرواحنا إلا الليل.