
في خطوة علمية رائدة تحمل في طيّاتها آفاقاً واعدة لمجابهة أزمة شح المياه العالمية، أعلنت جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية بالمغرب عن مشاركتها الفعلية في تمويل وتطوير جهاز ثوري يُنتج مياه الشرب من الهواء دون الحاجة لأي مصدر خارجي للطاقة، وذلك في إطار تعاون بحثي مشترك مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، أحد أبرز الصروح الأكاديمية في العالم.
جهاز صغير… بقدرة خارقة في قلب الجفاف
تمكن هذا الابتكار العلمي الجديد الذي لا يتعدى حجمه حجم نافذة منزلية، من اجتياز اختبار قاسٍ بنجاح، حيث تم تجريبه ميدانياً في صحراء “وادي الموت” في ولاية كاليفورنيا الأميركية، و التي تُعد من أكثر المناطق جفافاً في أمريكا الشمالية، ورغم الظروف المناخية القاسية، تمكن الجهاز من توليد مياه صالحة للشرب لمدة سبعة أيام متواصلة، بمعدل يومي يتراوح بين 57 و161.5 مللتراً، حتى في ظروف انخفضت فيها نسبة الرطوبة إلى حدود 21%.
التكنولوجيا وراء المعجزة: من “الأوريغامي” إلى “الهيدروجيل”
يعتمد الجهاز على تقنية ذكية مستوحاة من فن “الأوريغامي” الياباني، حيث صُممت المادة الأساسية العاملة فيه” وهي مادة هيدروجيل سوداء اللون” على شكل قباب صغيرة قابلة للتمدد والانكماش. خلال الليل، حين تبلغ الرطوبة ذروتها، تمتص هذه القباب بخار الماء من الهواء، ثم تطلقه نهاراً تحت تأثير حرارة الشمس، ويتم تكثيف هذا البخار على سطح زجاجي مبرّد، لتتساقط قطرات الماء وتُجمع في أنابيب بسيطة.
ولا يقتصر الابتكار على التصميم فقط، بل يشمل أيضاً تركيبة المادة نفسها، فقد أضاف الباحثون مادة “الغليسيرين” إلى تركيبة الهيدروجيل لمنع تسرب الأملاح إلى الماء المستخلص، وهو ما شكّل معضلة تقنية مزمنة في نماذج سابقة اعتمدت على أملاح مثل كلوريد الليثيوم لتعزيز امتصاص الرطوبة، كانت هذه الأملاح تتسرب إلى الماء، مما يستدعي عمليات ترشيح لاحقة معقدة ومكلفة.
من دون طاقة… ومن دون تعقيد
أحد أبرز ما يميز هذا الجهاز هو اعتماده الكامل على البيئة المحيطة، دون الحاجة إلى الكهرباء أو الألواح الشمسية أو البطاريات أو حتى الاتصال بأي شبكة، و هذا ما يجعله مناسباً تماماً للمناطق التي تعاني من هشاشة البنية التحتية أو تعيش تحت وطأة شحّ المياه، كما أن تصميمه البسيط وخفيف الوزن يفتح الباب أمام إمكانية استخدامه في حالات الطوارئ، أو في المناطق النائية، أو ضمن برامج التنمية المستدامة في القرى والمجتمعات الفقيرة.
شراكات بحثية عابرة للقارات
هذا المشروع ليس فقط ثمرة تفوق علمي، بل أيضاً نموذج ناجح للتعاون الأكاديمي الدولي، فقد شاركت جامعة محمد السادس المغربية في تمويل هذا الابتكار من خلال برنامج بحثي مشترك مع MIT، إضافة إلى دعم مالي من الجامعة الصينية في هونغ كونغ، ومنحة من مبادرة المياه والغذاء العالمية التابعة لمعهد ماساتشوستس.
ويترأس الفريق العلمي المطور البروفيسور شوانخه جاو، الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، المتخصص في الهندسة الميكانيكية والمدنية والبيئية. ويؤكد جاو أن هذا الجهاز ما زال في مرحلة “إثبات المفهوم”، مما يترك المجال مفتوحاً أمام تحسينات مستقبلية قد ترفع من كمية المياه المنتجة أو توفّر نماذج أكبر حجماً قادرة على تلبية احتياجات أسر أو مجتمعات كاملة.
آفاق وتحديات قادمة
رغم أن الجهاز لا يزال في مرحلته التجريبية، فإن خصائصه الفريدة تضعه في صدارة الحلول الممكنة لأزمة المياه العالمية، خاصة في ظل تنامي آثار التغير المناخي وتراجع مستويات المياه الجوفية في عدد من مناطق العالم.
ويرى خبراء البيئة أن تعميم هذه التكنولوجيا وتطويرها قد يشكّل نقطة تحوّل في مفهوم الوصول إلى المياه، حيث لم يعد ذلك مرتبطاً بمصادر تقليدية كالسدود أو الأنهار أو حتى محطات التحلية التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة، بل صار ممكناً عبر استغلال الرطوبة الموجودة في الهواء بطريقة نظيفة ومجانية.
من الصحراء إلى العالم
ما بين طموح علمي مغربي وشراكة بحثية دولية، تبرز قصة هذا الجهاز بوصفها نموذجاً لما يمكن أن يحققه التعاون العابر للقارات في خدمة الإنسانية، فحين تجتمع المعرفة، والابتكار، والإرادة، يصبح المستحيل ماءً يُشرب في قلب الصحراء.
جامعة محمد السادس، بهذا الإنجاز، لا تؤكد فقط حضورها العلمي في المشهد الدولي، بل تفتح أيضاً صفحة جديدة من الأمل في مواجهة أزمة عطش قد تطرق أبواب الملايين قريباً.