اقتصادالرئسية

البيتكوين رحلة من التمرد إلى البورصات

بقلم: بثينة المكودي

لم يكن أكثر المتفائلين يتصور أن تباع عملة الشعب يوما على أرفف البورصات العالمية، وأن يصبح سلاح التمرد المالي سلعة مضاربة بين أيدي نفس النخبة التي ادّعى أنه جاء ليُسقطها.

ما بدأ كفكرة جذرية تهدف إلى زعزعة النظام المالي العالمي، تحوّل اليوم إلى إحدى أدواته الأكثر ربحا.

في هذه الرحلة المدهشة من الهامش إلى المركز، تُظهر لنا الرأسمالية مرة أخرى قدرتها الفريدة على امتصاص نقادها، وابتلاع حتى أكثر أفكار التمرد تطرفا، ثم تسويقها بلغة الأرباح ونسب النمو.

من لا شيء، صنعت شيء…ومن الثورة، صنعت سوق.

منذ الظهور الأول للبيتكوين سنة 2009 على يد شخصية مجهولة تدعى ساتوشي ناكاموتو، لم يكن  أن يُتخيل له هذا المسار الجنوني.

ففي البداية ، البيتكوين لم يظهر من فراغ، بل خرج من رحم أزمة اقتصادية عالمية خانقة سنة 2008، حيث انهارت وقتها، ثقة الشعوب في النظام البنكي العالمي، بعد أن تسببت المضاربات المالية والانفجار العقاري في أمريكا وفي خسائر بمليارات الدولارات، دُفعت من أموال دافعي الضرائب، بينما نجا كبار البنوك دون حساب،  بدا النظام المالي حينها وكأنه صمم ليُكافئ الفشل إذا كان فاحشا بما يكفي.

في هذا السياق، ظهر اسم “ساتوشي ناكاموتو”، وهو الاسم المستعار لمُخترع البيتكوين، وفي أول سطر من الكود البرمجي الأصلي للبيتكوين، أدرج رسالة مشفّرة:

“The Times 03/Jan/2009 Chancellor on brink of second bailout for banks “

وهي عنوان صحيفة بريطانية ، يتحدث عن خطة إنقاذ جديدة للبنوك، وكانت الرسالة واضحة؛

“هذه العملة جاءت احتجاجا على هذا النظام، لا جزءا منه.”

عملة لا مركزية، بلا بنوك، بلا وسطاء

البيتكوين صمم ليكون عملة لا تحتاج لبنك مركزي أو مؤسسة وسيطة، ويُدار عبر شبكة من المتطوعين حول العالم، أي شخص يستطيع استخدامه، من دون الحاجة إلى إذن. لا أحد يستطيع تجميده، أو منعه، أو التحكم في سيولته.

وهكذا بدأت فكرة “عملة الشعب” كوسيلة تبادل تمنح للجميع، ولا تتحكم فيها الحكومات، ولا تراقبها الأبناك، ولا تُستغل لفرض سياسات نقدية تصب في صالح الأغنياء.

انطلق كصرخة تكنولوجية ضد المنظومة البنكية التقليدية وضد جشع الرأسمالية، فإذا به ينتهي أو يكاد يصل إلى أحد تجلياتها الجديدة.

سار أصل مالي تتهافت عليه البورصات، وتقنن تداوله الحكومات، ويُروج له كبار المستثمرين الذين كانوا في الأمس من حراس معبد النظام المالي العالمي الكلاسيكي.

“لكن، كما تفعل الرأسمالية دائما، حيث لم تتأخر في استيعاب هذه “الفكرة المتمردة”، فبعد سنوات من التهكم والرفض، دخلت المؤسسات الكبرى على الخط.”

بدأ الأمر بشركات تكنولوجيا تدعم العملات الرقمية، ثم انخرطت فيه صناديق التحوط، والبنوك الاستثمارية، بل حتى دول مثل السلفادور التي أعلنت البيتكوين عملة رسمية، واليوم، تتسابق البورصات الكبرى لتقديم صناديق تداول مرتبطة بالبيتكوين، وتفتح منصات التداول لكل من يريد الاستثمار، حتى ولو لم يفهم شيئا من جوهر التقنية.

لقد فعلت الرأسمالية ما تتقنه؛ أعادت تشكيل الخطر إلى فرصة،  والتمرد إلى منتج، فكما صنعت من القميص الثوري رمزا تجاريا، ومن ثقافة الهامش مادة دعائية، ها هي تُدخل البيتكوين إلى صالات التداول المكيّفة، وتُلبسه بدلة المستثمر البارد الأعصاب، بعدما كان يرتدي قناع “أنونيموس”.

وليس هذا مستغربا فالرأسمالية لا تُسقط خصومها بقدر ما تُعيد تدويرهم، إنها منظومة تعرف كيف تنتقد ذاتها لتعيد إنتاج ذاتها بشكل مختلف،  تأخذ ما يهددها، وتفرغه من مضمونه، ثم تبيعه لمن كان يحاربها باسم البديل،  ومع البيتكوين، لم يكن الاستثناء.

لكن خلف هذه القصة هناك سؤال أكبر، هل فقد البيتكوين روحه؟ أم أن الثورة لا تزال ممكنة من داخل النظام نفسه؟ وهل يمكن أن يكون للتكنولوجيا يوما ما قول آخر، لا يستغل فقط في توليد الأرباح، بل في إعادة بناء الثقة؟ الإجابة معلقة بين طموح المبرمجين الأوائل، وعيون المضاربين اليوم.

فالبيتكوين بدأ كأمل… وانتهى كأصل مالي.

أما الرأسمالية؟ فهي لا تموت، إنها فقط تُبدل جلدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى