الرئسيةرأي/ كرونيك

فلسطين ألبانيزي: اقتصاد الإبادة أحدث مراحل الرأسمالية

لولا الحياء، الدبلوماسي بحكم الموقع، لاستمرأ وزير الخارجية الأمريكي ماكو روبيو المطالبة برأس فرنشيسكا ألبانيزي، المقررة الخاصة للأمم المتحدة حول حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ مكتفياً، في هذه الجولة على الأقلّ، بفرض عقوبات اعتادت الإدارات الأمريكية على اللجوء إليها كلما رنّ ناقوس خارج سياقات لا تُرضي الولايات المتحدة. فكيف إذا كانت، بتوصيف روبيو، تنطوي على «جهود غير شرعية ومخزية لحثّ المحكمة الجنائية الدولية على التحرك ضدّ مسؤولين وشركات ومديرين تنفيذيين أمريكيين وإسرائيليين».

وهؤلاء، «ضحايا» التقرير الذي أصدرته ألبانيزي مؤخراً، ليسوا أقلّ من شركات عملاقة كونية عابرة للقارّات، أمثال لوكهيد الأمريكية، ليونرود الإيطالية، فانوك اليابانية (في ميادين الصناعات العسكرية)؛ وكاتربيلار الأمريكية، هونداي اليابانية، فولفو السويدية، HD الكورية الجنوبية، Airbnb و Booking.com العالمية (السيارات والنقل والإسكان والسياحة)؛ وشيفرون، النفط البريطانية، باركلي العالمية، أكسا الفرنسية، أليانتز الألمانية (طاقة ومصارف وتأمين)؛ وأخيراً، وليس آخراً: أمازون، ميكروسوفت، بالانتير، ألفابيت،IBM (المعلوماتية والتواصل).

هؤلاء هم شركاء دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة ضمن ما تشخّصه ألبانيزي هكذا: «من اقتصاد الاحتلال الاستيطاني ـ الاستعماري، إلى اقتصاد الإبادة الجماعية».

اللائحة تشمل أكثر من 60 شركة عملاقة كونية، هي العمود الفقري لمنظومات العولمة الراهنة، وما يواصل الحياة من ركائز الإمبريالية؛ وهذا توصيف يتيح القول إنّ انخراط هذه الشركات في اقتصاد الإبادة الراهن ضدّ قطاع غزّة هو، على نحو أو آخر، أحدث مراحل الرأسمالية.

الشركات التي يتباكى عليها روبيو

شطر الصناعات العسكرية، بين صفوف هؤلاء الذين يتباكى عليهم روبيو، قدّم لدولة الاحتلال نحو 35.000 طنّ من المتفجرات التي أُلقيت على قطاع غزّة، وهي حسب تصريح ألبانيزي تعادل 6 أضعاف القوة التدميرية للقنبلة النووية التي أسقطتها الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما اليابانية.

الفروع الأخرى في اللائحة، المصارف والتأمين والسياحة والنفط والتجارة، ليست أقلّ مساهمة في طبع هذه المرحلة الرأسمالية/ الإمبريالية بطابع المتواطئ في الإبادة الجماعية، والشريك الصانع أحياناً.

ومنذ الموجز التمهيدي للتقرير، لا تتردد ألبانيزي في الذهاب إلى جوهر واقع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإلى تورّط الشركات العالمية في «تعزيز المشروع الاستعماري ـ الاستيطاني الإسرائيلي في تهجير واستبدال الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

شركات تربحت من الاقتصاد الإسرائيلي الناجم عن الاحتلال والأربارتيد

وبينما يتنصل القادة والحكومات من التزاماتهم، فإنّ عدداً كبيراً للغاية من الكيانات والشركات تربحت من الاقتصاد الإسرائيلي الناجم عن الاحتلال غير الشرعي، والأبارتيد، والإبادة الجماعية اليوم».

وليس التواطؤ الذي يفضحه التقرير سوى «رأس جبل الجليد»، تتابع ألبانيزي، ولن يتمّ وضع حدّ له من دون تحميل المسؤولية للقطاع الخاصّ، بما في ذلك المدراء أنفسهم.

فالقانون الدولي يقرّ مستويات متنوعة من المسؤولية، كلّ منها «يقتضي التمحيص والمحاسبة، خاصة في هذه الحالة، حيث حقّ شعب في تقرير مصيره ووجوده ذاته على المحك.

الخطوة الضرورية لانهاء الإبادة الجماعية

تلك خطوة ضرورية لإنهاء الإبادة الجماعية، وتفكيك النظام الكوني الذي سمح بتكوّنها». ولا عجب أن تستطرد ألبانيزي هكذا: «المشاريع الاستعمارية والإبادات الجماعية المرتبطة بها، تمّ دفعها وتحريكها من جانب قطاع الشركات.

والمصالح التجارية أسهمت في تجريد الشعوب الأصلية من أراضيها، وهذا نمط من الهيمنة يُعرف باسم ‘الرأسمالية الاستعمارية العنصرية’. الأمر ذاته صحيح بخصوص الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، ومأَسَسته في نظام أبارتيد استيطاني ـ استعماري».

في خلفية فصول التقرير ثمة إشارات عديدة إلى سلسلة الأزمات التي تعصف بالنظام الرأسمالي الراهن، وتتجسد تباعاً في مشكلات هذه الشركة العملاقة أو تلك

خلاصات من عيار ثقيل، غنيّ عن القول، ترددت أصداؤها في تقارير سابقة وقّعتها ألبانيزي في الماضي منذ توليها المهمة، واتخذت بعد 7  (أكتوبر) 2023 صفة أكثر وضوحاً من حيث تشخيص المنظومات الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية الإسرائيلية؛

وليس مستغرباً أن تمنعها سلطات الاحتلال من دخول فلسطين، وأن تعاقبها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وإذْ تبدو هذه الحال بمثابة وسام شرف على صدر ألبانيزي، من واقع وظيفتها ذاتها؛ فإنّ تقارير ألبانيزي، الباحثة السياسية والاجتماعية هذه المرّة، ومؤلفة كتاب متميز عن اللاجئين الفلسطينيين في ضوء القانون الدولي،

تشرّفها بالمعاني العلمية والأكاديمية والمنهجية والأخلاقية. وهوامش التقرير، المكثفة المتنوعة التي تتجاوز بكثير روحية مطالعات إدارية أو بيروقراطية، تنمّ عن خيارات بحثية عميقة الغور، تبدأ من الإنصاف الموضوعي ولا تتورع عن الجسارة القصوى.

خيانة مبادئ حقوق الإنسان

وفي خلفية فصول التقرير ثمة إشارات عديدة إلى سلسلة الأزمات التي تعصف بالنظام الرأسمالي الراهن، وتتجسد تباعاً في مشكلات هذه الشركة العملاقة أو تلك، كما في نزاعات أقطاب المنظومة الكبار التي قد تبدأ من عماء التنافس التجاري ولكنها لا تنتهي عند رسوم ترامب الجمركية. وليست خيانة مبادئ حقوق الإنسان،

بوصفها عماد الفلسفات الليبرالية المعلَن على الأقلّ، هي وحدها حلبة افتضاح تواطؤ أكثر من 60 شركة كونية عملاقة في حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة؛ كما أن جشع التربّح العشوائي الأعمى ليس الحافز المركزي الأكبر أيضاً، على نقيض ما تعكس أنساق الانخراط في جرائم الحرب.

معضلة اليونان ليست سوى وليد طبيعي لاختلال النظام المالي الرأسمالي

ثمة، في الجوهر الأعمق، ذلك المآزق البنيوي الذي يشقّ الائتلاف الرأسمالي بين حين وآخر، لأنه ببساطة يتابع تلك النبوءة الماركسية الرهيبة، حول نظام رأسمالي لا يملك إلا أن يخلق حفأر قبره بيديه؛ في أوج مزاعم التكامل كما يُحرص على توفيرها في السطح الظاهر، ولكن في ذروة التصارع على مصالح الباطن المتضاربة المتناقضة.

وقبل سنوات قليلة، حين احتدمت أزمة اليونان الاقتصادية ـ الاجتماعية، لاح أنّ بوادر السطح هي العلّة (تضخم الدين العام على نحو غير مسبوق، واعتماد برامج تقشف خرافية أسفرت بالضرورة عن عواقب اجتماعية واقتصادية وخيمة)؛ ليتضح سريعاً أنّ معضلة البلد ليست سوى وليد طبيعي لاختلال النظام المالي الرأسمالي،

ومصير اليونان الحتمي هو اتخاذ قرارات مؤلمة لا تخلق حفّار القبر الشهير إياه فحسب، بل تضع البلد على حافة انهيار شامل.

في المقابل، باتت حكاية حقوق الإنسان مجرد «عبادة» ليبرالية خالية من المعنى، كما يساجل المفكر البريطاني جون غراي، لأنها فقدت تعريف أغراضها السامية الأولى، وباتت عاجزة عن أداء أدوارها كعوائق رمزية أمام شرور قصوى مثل الإبادة الجماعية والاستعباد والتعذيب.

انخراط أزيد من 60 شركة رأسمالية كونية كبرى في أبشع جرائم الحرب

وانخراط 60 شركة رأسمالية كونية كبرى في سلسلة من أبشع جرائم الحرب على امتداد التاريخ البشري، ليس أقلّ من وثيقة دحض وإنكار وتكذيب لعشرات المفاهيم الليبرالية التي تَسارع إعلانُ ظفرها الختامي، بالضربة القاضية أحياناً، بعد سقوط جدار برلين، و«انتهاء التاريخ» على يد أمثال فرنسيس فوكوياما، وقبله صدام الحضارات عند صمويل هنتنغتن.

ولهذا فإنّ ما تسميه ألبانيزي «السياق القانوني» لهذا التورّط، إنما ينبثق من «قانون يحكم مسؤولية الشركات ويضرب بجذوره في العلاقة التاريخية بين نزع الملكية عنفياً وبين السلطة الخاصة، وتراث تواطؤ الشركات مع الاستعمار الاستيطاني والتفرقة العنصرية».

هذه خلاصة تُدرج المشهد الفلسطيني بالطبع، ولكنها في المحصلة تذهب أبعد إلى المنظومات الأوسع والأعمّ التي تجعل علاقات ميكروسوفت أو أمازون أو فولفو أو لوكهيد أو كاتربيلار مع دولة الاحتلال والاستيطان والعنصرية أقرب إلى شركة مساهمة غير مغفلة؛ بعض ركائزها التسلطية أنّ عدداً غير قليل من تلك الشركات يراكم أرقام ربحٍ تتفوق على الناتج القومي الإجمالي في كثير من البلدان.

والتنافر ما بين السلطة الهائلة، غير الخاضعة للمحاسبة، والقادرة على الإفلات من المساءلة القانونية، هو العتبة الأولى، كما تستخلص ألبانيزي، لتوليد شبكات هيمنة وتواطؤ وشراكة، سياسية واقتصادية وخطابية؛ ثمّ… إبادية، استطراداً وبالضرورة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى