في جماعة أولاد يوسف بنواحي بني ملال، لم يكن الخزان المائي مجرد منشأة عمومية مرتفعة، بل تحول إلى منبر احتجاج يائس لرجل في منتصف الأربعينات، لم يجد بابا مفتوحا ولا أذانا صاغية بعد أن طرق كل المسالك القانونية للمطالبة بفتح تحقيق في ظروف وفاة والده، كما أكد مقربون منه.
على ارتفاع شاهق، اعتصم لأيام فوق الخزان، في عز الحرّ والصمت، مستنجدا بعدالة لم تأت.
و أكدت لسلطات المحلية، في بلاغ رسمي لها، أن الشخص ألقى بنفسه من أعلى الخزان واضعا حبلا حول عنقه، وأنه نقل في حالة حرجة إلى المستشفى الجهوي ببني ملال حيث يرقد في قسم العناية المركزة.
السلطات لم تدخر جهدا لإنقاذه
وأضافت أن السلطات لم تدخر جهدا في محاولة إقناعه بالنزول، بحضور أقاربه وأعضاء من اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان، لكنها لم تنجح، رغم تقديم عدة مقترحات لمواكبته قانونيا لتحقيق مطلبه.
غير أن البلاغ الرسمي لم يكتف بسرد تفاصيل السقوط، بل قدّم رواية لما جرى، حيث اتُّهم الشخص المعتصم بخداع عناصر الوقاية المدنية، بعدما ادعى تعرضه لوعكة صحية لدفعهم إلى الصعود إليه، قبل أن يُقدم، حسب الرواية ذاتها، على احتجاز أحدهم والاعتداء عليه بآلة حادة، ثم دفعه من أعلى الخزان، ما تسبب له في كسور خطيرة استدعت تدخل جراحي عاجل.
التدخل الأمني الحاسم
هذه الرواية دعّمها فيديو جرى تداوله على نطاق واسع، يوثق لحظة الاشتباك مع عنصر الوقاية المدنية فوق الخزان، في مشهد أثار صدمة وتفاعلا واسعين على مواقع التواصل الاجتماعي ، وكان من بين الأسباب التي دفعت السلطات إلى اتخاذ قرار التدخل الأمني الحاسم.
ووفق البلاغ ذاته، فإن عملية التدخل التي باشرتها عناصر الدرك الملكي قوبلت بمقاومة عنيفة من المعني بالأمر، الذي استعمل آلات حادة وقام برشق الحجارة.
وقد ُوضع جهاز مطاطي ممتص للصدمات أسفل الخزان في محاولة لتفادي الأسوأ، إلا أن المعني بالأمر، بعد محاصرته، ألقى بنفسه، ليفتح بذلك فصلا مأساويا جديدا من القصة.
لكن خلف هذه الرواية الرسمية، يطفو سؤال أعمق، ماذا يدفع إنسانا إلى هذا النوع من التصعيد؟ وما الذي يجعل مطلبا بسيطا كفتح تحقيق في وفاة والده، يتحول إلى معركة طويلة فوق سطح خزان ماء؟ وهل كانت كل السبل فعلاً قد استُنفدت؟ أم أن البيروقراطية والعجرفة الإدارية ما زالت تتعامل مع نداءات المواطنين كإزعاج غير مرغوب فيه؟
صحيح أن العنف مرفوض ولا يمكن تبريره، لكن لا يجب أن يختزل الحدث في “جريمة”، دون مساءلة الجذور العميقة التي دفعت هذا الرجل إلى خوض اعتصام خطير، والتصرف بهذه الطريقة القاسية مع نفسه ومع الغير.
جدير بالذكر أنه عندما تغلق أمام الناس أبواب العدالة، لا يبقى لهم سوى أن يصرخوا من فوق المرتفعات، أو يسقطوا منها.
ما حدث في بني ملال ليس مجرد واقعة أمنية، بل جرس إنذار مؤلم، العدالة ليست ترف أخلاقي، وكرامة الإنسان غاية الغايات.
والسؤال الآن ليس فقط كيف سقط هذا الرجل، بل لماذا صعد أصلًا؟ ولماذا لم يفتح تحقيق في مطلبه المشروع قبل أن يتحول المشهد إلى فاجعة؟
إنها قصة احتجاج انتهت في قسم العناية المركزة، لكنها بدأت في مكان أعمق بكثير في الشعور بالإقصاء، والإحساس بعدم الانتماء، وفقدان الثقة في من يفترض أنهم ينصفون المواطن لا يهملونه.
لكن لحظة، لنقف قليلا.
هل هذه قصة رجل عنيف، أم مواطن وصل إلى حافة اليأس؟ هل نصدّق أن شخصًا يعتصم لأيام فوق خزان ماء فقط لأنه يُحب المواجهة؟ هل كان البلاغ الأمني كافيًا لتفسير كل ما حدث؟
للتذكير لا أحد يبرر العنف، لا ضد النفس ولا ضد الآخرين، لكن خلف كل تصرف يائس، هناك يأس، وخلف كل احتجاج مفرط، هناك صوت لم يسمع، والرجل، بحسب من يعرفونه، طرق كل الأبواب من أجل مطلب بسيط: “تحقيق في وفاة والده”،لكن لم يستجب له أحد.
والمؤسف أن النقاش اليوم كله يدور حول “كيف سقط؟ وحول سلوك الرجل “، بينما السؤال الحقيقي الذي لا يطرحه أحد هو: لماذا صعد أصلًا؟ ما نسق وماهو السياق؟
لم يكن ذلك الخزان مجرد بناية متهالكة من الإسمنت، بل كان المنصة الوحيدة المتاحة له كي يُسمع صوته. وعندما لم يسمعه أحد، قرر أن يرمي بنفسه من الأعلى.
الناس لا يصعدون الخزانات حبا في التصعيد، بل لأن الأرض ضاقت بهم. لأن أصواتهم تُقابل بالصمت، وملفاتهم تُكدّس في رفوف الإدارات، ومطالبهم لا تجد من يأخذها على محمل الجد.
هذه ليست مجرد “واقعة أمنية”، هذه فاجعة، وليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، مادام المواطن يُعامل كملف، لا كقضية.
قصة بدأت بطلب مشروع وانتهت في العناية المركزة، لكنها تكشف هشاشة الرابط بين المواطن والدولة، عندما يشعر الأول أن لا صوت له في حضرة إدارة لا تسمع، وعدالة لا تصل.