
خرجت كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري، زكية الدريوش، خلال جلسة الأسئلة الشفوية بمجلس النواب، لتدق ناقوس الخطر بخصوص الأمن الغذائي في المغرب، مبرزة أن البلاد ليست بمنأى عن التحديات المناخية والاقتصادية التي تعصف بالعالم، لكنها سرعان ما لجأت إلى خطاب “التفاؤل المؤطر”، مؤكدة أن قطاع الصيد البحري ما زال “صامدًا”، ويُسجل أرقامًا “إيجابية” في الإنتاج.
لكن بين “الصمود الوزاري” وواقع القوارب في عرض البحر، هناك فجوة لا تسدّها التصريحات ولا الأرقام المُنمقة.
السردين.. ضحية الاحترار البحري
أوضحت الدريوش بلهجة علمية ومقاربة تقنية، أن “ارتفاع حرارة المحيطات” ، باعتباره أحد أبرز أعراض تغير المناخ، أدى إلى تراجع وفرة بعض الأصناف السمكية، وفي مقدمتها السردين، وهو ما أكدته دراسات علمية حديثة.
ويُعد السردين حجر الزاوية في المائدة المغربية، ليس فقط كمنتوج غذائي شعبي، بل كمصدر رزق لآلاف الصيادين ومُحرك اقتصادي لعشرات الموانئ.
لكن ما لم تقله الوزيرة هو كيف يواجه الصياد البسيط هذا “التحول الإيكولوجي”، ولا بأي أدواتٍ ستُواجه الأسر المغربية احتمال ارتفاع أسعار السمك، أو اضطرارها للاستغناء عنه في ظل التراجع المحتمل في العرض.
تحسن جزئي أم تسويق تفاؤلي؟
بالرغم من الإقرار بتراجع المخزون، سارعت الدريوش إلى محاولة امتصاص القلق، بالإشارة إلى تسجيل “تحسن” في السردين وبعض الأنواع الأخرى بـ”عدد من الموانئ الوطنية”،
لكن هذا “التحسن الموضعي” لا يُخفي ملامح أزمة وطنية، إذ أن الاكتفاء بالحديث عن بعض الموانئ يُثير الشكوك أكثر مما يبددها، خاصة في ظل غياب الأرقام التفصيلية، وصمت مريب عن الموانئ الأخرى التي قد تكون واجهت تراجعًا حادًا دون تغطية حكومية.
1.4 مليون طن.. رقم وافر أم رقم للاستهلاك الخارجي؟
و فيما أكدت الدريوش أن “الإنتاج الوطني من الأسماك بلغ حوالي 1.4 مليون طن خلال سنة 2024” ، وهو رقم قد يبدو مُبشّراً في الظاهر، إلا انه لا يُخفي حجم التفاوتات بين المناطق، والتحديات الاجتماعية المرتبطة بضعف القدرة الشرائية للمواطنين، واستنزاف الموارد البحرية بفعل الصيد الجائر واتفاقيات التبادل الحر، التي ظلت موضع جدل واسع.
الأمن الغذائي بين لغة الأرقام وواقع القوارب
رغم الأرقام “الإيجابية” التي قدمتها الوزيرة، يبقى السؤال الجوهري: هل الكمية المنتَجة تُترجم إلى أمن غذائي فعلي؟هل هذا الرقم يغطي فعليًا حاجيات السوق الداخلية؟ وهل يصل إلى المواطن المغربي في شكل غذاء متوازن وبأسعار في المتناول؟ أم أن الأمر يتعلق برقم للتصدير، و لا يعكس سوى الوجه التجاري للمأساة الغذائية؟
أما على المستوى الاجتماعي، فإن انخفاض وفرة السردين الذي يمثل ما بين 60% و70% من استهلاك المغاربة من الأسماك حسب معطيات وزارة الصيد يُنذر بتداعيات مباشرة على القوة الشرائية، وعلى مداخيل آلاف الصيادين الصغار الذين يعتمدون على هذه الثروة لتأمين قوت يومهم.
ويزداد الوضع تعقيدًا في ظل استمرار ارتفاع أسعار المحروقات، التي ترفع بدورها تكلفة الخروج إلى البحر، وتقلص هامش الربح لصالح المجهزين الكباروأباطرة التصدير، الذين يُحافظون على مكتسباتهم بينما تُسحق القوارب الصغيرة تحت ضغط المديونية، والتغير المناخي، وغلاء المعيشة، لتتحول “1.4 مليون طن” إلى رقم يحتفي به المُصدّرون، ويُلاحقه الفقراء في أسواق الأحياء الشعبية .
و تكشف هذه المفارقة فشل السياسات العمومية في ضمان عدالة بحرية وغذائية، رغم كثرة الخطط والبرامج.
في انتظار استراتيجية بحرية اجتماعية
يتضح أن المغرب، وإن كان يحتفظ بقدرات إنتاجية معتبرة، فإنه بحاجة ماسة إلى مقاربة اجتماعية حقيقية في تدبير ثروته البحرية، تتجاوز الأرقام إلى ضمان الحق في التغذية الكافية والسليمة لجميع المواطنين، دون أن تتحول الأسماك إلى سلعة محصورة بين الاحتكار والتصدير.
لقد بات الأمن الغذائي في المغرب يواجه تحديات لا تقتصر فقط على تغير المناخ، بل تشمل أيضاً طبيعة السياسات العمومية، وغياب العدالة في توزيع الموارد، وسوء تدبير بعض الملفات المرتبطة باتفاقيات الصيد مع الخارج، في مقابل غياب دعم حقيقي للمهنيين المحليين في القطاع.
وإلى أن تتحول لغة الأرقام إلى واقع على المائدة، ستبقى أسئلة الأمن الغذائي في المغرب معلقة بين أمواج المحيط ورفوف البرلمان.