كيف أعادت ‘الأوديسة” سؤال إنقاذ الطقس السينمائي من الأفول
04/08/2025
0
تحرير: جيهان مشكور
في زمن تنكمش فيه التجربة السينمائية لصالح المنصات الرقمية، ويُستبدل فيه وهج القاعات المظلمة بزرّ “تشغيل” على شاشة هاتف أو تلفاز، يصرّ كريستوفر نولان على السباحة عكس التيار، حاملاً على عاتقه مهمة شبه مستحيلة: إنقاذ الطقس السينمائي من أفول يبدو محتوماً.. ومع فيلمه المرتقب “الأوديسة”(The Odyssey)، لا يبدو أنه فقط يصنع فيلماً، بل يعيد تشكيل علاقة الجمهور بالشاشة الكبيرة، ويوجه صفعة قوية لفكرة أن زمن السينما قد ولى.
نولان.. مخرج يؤمن بقدسية الشاشة الكبيرة
ليست هذه أول مرة يتحدى فيها نولان المنطق السائد، ففي عز جائحة “كوفيد-19″، حين أغلقت دور العرض أبوابها، خرج إلينا بفيلمه “Tenet” متحدياً المخاوف الصحية والقيود الاقتصادية، مُصراً على العرض السينمائي الحي، واليوم، ومع “الأوديسة”، يبدو أن المخرج البريطاني الشهير يحاول ترسيخ قناعة جديدة: أن هناك أفلاماً لا يمكن أن تُشاهد إلا في قاعة مظلمة على شاشة عملاقة، تحيط بك الصورة وتحتويك التجربة.
وقد أثبت نولان مراراً أن هذه الرؤية ليست مجرد نزعة رومانسية، بل خيار استراتيجي مُثمر. فيلمه السابق “أوبنهايمر“، رغم طابعه التاريخي الجاف في نظر البعض، حقق أكثر من مليار دولار، وتُوّج بعدة جوائز أوسكار، وتحوّل إلى ظاهرة ثقافية عالمية، بل دخل في مواجهة جماهيرية-رمزية مع فيلم “باربي” لغريتا غيرويغ.
واليوم يؤكد بفيلمه “الأوديسة” الذي نفدت تذاكره في غضون ساعات قليلة من طرحها، قبل عام كامل من موعد عرضه المقرر في يوليو 2026 صح قناعته، فهذا الإقبال الخرافي لا يعكس مجرد شغف بفيلم جديد، بل ارتقاء الحدث إلى مستوى “الطقس الجماعي” و”الحدث الثقافي”، في سابقة غير معهودة حتى في أرشيف هوليوود.
تذاكر نفدت قبل أن يولد الفيلم
بمجرد إعلان آيماكس عن فتح باب الحجز المسبق لعروض “الأوديسة“، حتى اندفع الآلاف لحجز مقاعدهم، في مشهد يذكّر بالاحتشاد لحضور مباريات نهائية أو مهرجانات نادرة، ففي صالة “آيماكس ملبورن” وحدها، بيعت 1800 تذكرة لأربعة عروض خلال ليلة واحدة، لتلتحق بعدها صالات أخرى في بريطانيا والولايات المتحدة بالظاهرة، بينما بدأت السوق السوداء تتداول التذاكر بأسعار وصلت إلى 400 دولار، في موجة جنون جماهيري قلّ نظيرها.
جيريمي في، المدير العام لآيماكس، لم يُخفِ ذهوله، وصرّح لصحيفة “هوليوود ريبورتر” بأن الضغط على الحجز دفعهم لتغيير النظام التقني بالكامل، واصفاً نولان بأنه “أهم صفقة” في سجل الشركة، بل وأكد أن فترة البيع المسبق لفيلم “الأوديسة” هي الأطول في تاريخ آيماكس على الإطلاق.
“الأوديسة”.. ملحمة نولانية بعين تقنية وكاميرا IMAX 1570
يتّكئ نولان في هذا المشروع على تنسيق التصوير الأكثر تطوراً: IMAX 1570، وهو معيار نادر الاستخدام بسبب حجمه الضخم ودقته المتناهية، ولا تتوفر دور عرض كثيرة قادرة على تشغيله.. لكن نولان، كعادته، لا يستسلم للقيود التقنية، بل يحوّلها إلى تحدٍ إبداعي، متبنياً هذه التقنية منذ”The Dark Knight” مروراً بـ”Interstellar” و”Dunkirk” وصولاً إلى “Tenet” و\”Oppenheimer”\.
كما يشكل هذا الفيلم تعاونه الثاني مع “يونيفرسال بيكتشرز”، بعد أن غادر حضن “وارنر براذرز” إثر خلافات متعلقة بسياسات البث الرقمي، مؤكداً تمسكه برؤية سينمائية تحترم طقوس العرض الجماعي.
رحلة عبر قارات.. ونجوم من الصف الأول
وفق ما أعلنته “يونيفرسال”، تم تصوير “الأوديسة” في عدة قارات وبلدان لم يتم الكشف عنها بعد، في محاولة لإضفاء عنصر المفاجأة لكن حسب مصادر مطلع كان للمغرب نصيب في تصوير هذه الملحمة.
أما الطاقم التمثيلي، فيضم مزيجاً من أسماء بارزة اعتاد نولان العمل معها، مثل آن هاثاواي، روبرت باتينسون، وتشارليز ثيرون، إلى جانب وجوه جديدة في أفلامه مثل جون بيرنثال وتوم هولاند.
هولاند، بطل سلسلة سبايدرمان، كان أول من كشف بعض ملامح المشروع حين وصفه في لقاء عابر خلال نهائي الدوري الأوروبي بأنه “فرصة العمر”، مؤكداً أنه يشهد شيئاً “مختلفاً ومذهلاً بشكل غير مسبوق”، في إشارة إلى ضخامته البصرية والدرامية.
هل يعود أوديسيوس في نسخة نولانية؟
العنوان “الأوديسة” لا يأتي اعتباطاً، فالملحمة الإغريقية لهوميروس، التي تروي رحلة عودة أوديسيوس بعد سقوط طروادة، هي نسيج من الأسطورة والتاريخ، وتُجسد التّيه الإنساني، ومعارك الهوية، وصراع الإنسان مع قدره والآلهة والمجهول… إنها خامة روائية تمثل حلم أي صانع سينما يسعى لإنتاج عمل كوني يتجاوز الحدود.
نولان، المعروف بتلاعبه المعقّد بالزمن، يبدو أنه وجد في “الأوديسة” الحقل المثالي لتجريب كل أدواته، فهل سيكون الزمن في الفيلم مجرد خط مستقيم؟ أم سنرى تشظياته مجدداً بين الماضي والمستقبل كما فعل في “Inception” و”Interstellar”؟ وهل ستكون العودة إلى الوطن مجرد رحلة ملاحية؟ أم استعارة وجودية لفقدان المعنى والبحث عن الذات وسط عوالم تتداخل فيها الحقيقة بالوهم؟
بين طموح نولان وحرب كاميرون الخفية
الجدل الذي يُثيره “الأوديسة” اليوم يُعيد إلى الأذهان التوتر الكامن في علاقة صناع الأفلام الكبار مع المنصات الرقمية، في موقف يوازي موقف جيمس كاميرون حين ربط إنتاج أجزاء جديدة من “Avatar” بتحقيق إيرادات معينة، يفتح نولان بوابة تفكير جديدة حول مستقبل الصناعة: هل لا تزال السينما تستحق كل هذا العناء؟ وهل يمكن لمخرج أن يحوّل فيلمًا إلى حدث عالمي بمجرد توقيعه عليه؟
“الأوديسة” إذًا، ليست مجرد فيلم قادم، بل علامة فارقة في صراع الفن مع السوق، والخيال مع الحسابات الرقمية، والذاكرة الجماعية مع الفردية المتناثرة خلف الشاشات الصغيرة.
وفي انتظار يوليو 2026، تبقى تذاكر الفيلم المباعة سلفاً ليست قطع ورق فحسب، بل شهادات ميلاد لزمن سينمائي لم ينقرض بعد.