
تيك توك في المغرب..الواقع المقلق
في ظل الثورة الرقمية التي غزت المجتمعات العربية، تَصدَّر تقرير منصة “تيك توك” للربع الأول من 2025، مشهداً يعكس أكثر من مجرد أرقام وإحصائيات، بل واقعاً مقلقاً حول المحتوى الذي يتدفق يومياً على منصات التواصل، خصوصاً في المغرب والدول المجاورة.
فوفق التقرير، حذفت تيك توك على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر من 16.5 مليون فيديو مخالف لإرشادات المجتمع، كان من بينهم 1,040,981 فيديو في المغرب وحده، بالإضافة إلى حظر 44,121 مضيف بث مباشر وتعطيل 77,396 بثاً مباشراً بالمملكة، هذه الأرقام ليست مجرد معطى رقمي ضمن تقرير دولي، بل مرآة حقيقية لواقع اجتماعي منهار، تتغذى فيه التفاهة من الجهل، وينتعش فيه المحتوى الساقط من خواء ثقافي وأخلاقي.
مليون فيديو محذوف في المغرب… من يصنع هذا المحتوى؟
أزالت تيك توك ما مجموعه 1,040,981 فيديو مخالف في المغرب خلال ثلاثة أشهر فقط، بمعدل يفوق 11 ألف فيديو يومياً، نسبة الإزالة الاستباقية بلغت 98.9%، فهذا يعني أن غالبية هذه الفيديوهات لم يُبلغ عنها من طرف المستخدمين، بل تم رصدها تلقائيًا عبر خوارزميات المنصة.
وهنا المفارقة الكبرى: المجتمع المغربي لم يعد حتى يرى في هذه المضامين ما يستحق التبليغ، وكأن ما هو فاحش، مبتذل، أو تحريضي، أصبح عاديًا، أو بالأحرى مستساغًا في الوعي الجماعي.. هذا في حد ذاته ناقوس خطر لا يجب تجاوزه.
و أضافت تيك توك أن 92.1% من المحتوى أُزيل خلال أقل من 24 ساعة، في حين تم تعطيل 77,396 بثًا مباشرًا، وحظر 44,121 مضيفًا للبث.. ومن يزور المنصة اليوم، لن يحتاج كثيرًا من الوقت ليكتشف أن “البث المباشر” تحول في حالات عديدة إلى مسرح عبثي للابتزاز، أو منصة للدعارة المقنّعة، أو لترويج التفاهة مقابل “هدايا رقمية” تُحول فيما بعد إلى أموال.
حين تقارن: المغرب ليس الأسوأ رقميًا… لكنه ليس بعيدًا عن القاع
فقد سجلت مصر خلال نفس الفترة حذف 2.9 مليون فيديو مخالف، تليها العراق بـ10 ملايين، ثم لبنان بـ1.3 مليون، والإمارات بـ1.05 مليون.. تشير هذه الأرقام إلى انفجار رقمي أخلاقي في عموم المنطقة، وليس المغرب استثناءً.
لكن ما يميز الحالة المغربية هو ان حجم المخالفات يظل مرتفعًا مقارنة بعدد السكان، بل ويمكن القول إنه مرتفع بشكل غير مبرر، فإذا كان عدد سكان المغرب يبلغ 37 مليونًا، فإن حذف مليون فيديو يعادل محتوى مخالف لكل 37 شخصًا… خصوصًا حين نقارن عدد المحتويات المحذوفة بعدد الفيديوهات المسترجعة بعد الاستئناف، إذ تم استرجاع 53,525 فيديو فقط من أصل أكثر من مليون، ما يؤكد أن الخرق لم يكن عرضيًا، بل سلوكًا متعمدًا من مبدعي المحتوى.
لماذا يهرب الشباب إلى “الترند”؟ الهشاشة الاجتماعية تجيب…
المجتمع المغربي لا يفرّ إلى تيك توك هرباً من الملل فقط، بل هروبًا من واقع اقتصادي هش، وفراغ ثقافي مدقع.
فالعديد من “المؤثرين” اليوم، هم في الأصل ضحايا منظومة تعليمية واقتصادية فاشلة، لم يجدوا فرصًا لتطوير مهاراتهم الحقيقية، فقرروا الاستثمار في الجسد، أو في استفزاز المجتمع، لكسب “المشاهدات والمال”.
البث المباشر: ثغرة للربح السريع أم بوابة للإفساد العلني؟
أصبح البث المباشر في تيك توك أداة مركزية لإنتاج المحتوى “الفوري”، غير الخاضع للمونتاج ولا الرقابة.
حسب تقرير المنصة، فقد تم حظر849,976 مضيف بث مباشر في المنطقة، وتم إيقاف 1.5 مليون بث مباشر بشكل استباقي.
لكن هذه الأرقام لا تعني أن المنصة “تنتصر للأخلاق”، بل إنها ببساطة تحاول تلميع صورتها أمام الحكومات والمنظمين، خصوصًا مع تصاعد الانتقادات والاتهامات المتعلقة باستغلال الأطفال، أو الترويج للعنف والتمييز.
المجتمع في مرآة تيك توك: من يربي من؟ ومن يراقب من؟
ليست المشكلة في تيك توك وحدها، فالمنصة ليست سوى مرآة لما ينتجه المجتمع نفسه. المشكل يكمن في: منظومة تعليمية عاجزة عن إنتاج وعي نقدي رقمي، و أسر غائبة عن دور التربية والتأطير، و إعلام تقليدي فقد جاذبيته مقابل “التيك توكرز”، وسلطات تنظيمية تتعامل مع الفضاء الرقمي كملف ثانوي…،
وحين يُترك المجتمع يتشكل في الفضاء الرقمي بعيدًا عن التوجيه، تصبح “المشاهدات” معيارًا للقيمة، وليس الفكرة أو الرسالة، وهنا تبدأ الكارثة الأخلاقية.
تيك توك “تنظف” فضاءها… لكن من ينظف الواقع؟
رغم الجهود التقنية التي تبذلها تيك توك، تظل الحقيقة أن التكنولوجيا وحدها لا تُربّي، وأن أي محاولة لضبط المحتوى دون مشروع مجتمعي شامل للتربية الرقمية، ستكون مجرد مسكنات في مواجهة سرطان قيمي ينتشر بلا توقف.
من الضروري أن تتدخل الدولة، لا من أجل “الحظر والملاحقة”، بل من خلال: إدماج التربية الرقمية في المناهج التعليمية، و خلق بدائل ثقافية حقيقية للشباب و تأطير المؤثرين في إطار قانوني ضريبي وأخلاقي واضح، والأهم هو استعادة الثقة في المؤسسات التي فقدت دورها التربوي لصالح “الخوارزميات”.
بين الرقابة المتطورة والواقع المؤلم
قد تحذف تيك توك مليون فيديو، أو عشرة ملايين، قد تغلق مئات آلاف البثوث المباشرة، وقد تطور خوارزميات أكثر ذكاءً.. لكن طالما أن الشباب المغربي يجد في “الترند” ملاذًا للنجاة من واقع مرير، فإن ما يُحذف اليوم سيُعاد إنتاجه غدًا، بشكل أذكى، وربما أكثر ضررًا.
المعركة الحقيقية ليست بحذف الفيديوهات، بل في بناء مجتمع واعٍ قادر على التمييز بين الحُرية والجهل، بين التعبير والرذيلة، بين التكنولوجيا كأداة للتقدم أو كسلاح في يد التفاهة.