الرئسيةثقافة وفنوندابا tv

“العائد”: فيلم الدهشة والأداء الهرقلي لديكابريو

جحيم الطبيعة وقسوة الإنسان في سينما الألم والبعث

بقلم الكاتب والإعلامي عبدالعزيز كوكاس

فيلم “العائد” الذي تدور أحداثه في عام 1823، مستوحى من حياة صياد الفراء ساكن الحدود هيو غلاس، وهو مقتبس جزئيا من رواية تحمل نفس الاسم “العائد من الموت” لمايكل بين.. كتب السيناريو مارك إل سميث وإيناريتو.. فيلم لديه قدرة على نقل ما لا يمكن تصوره.

عُرض لأول مرة في 16 ديسمبر 2015 وصدر رسميا في 8 يناير 2016. تلقى ترحيبا كبيرا من النقاد، وبالأخص أداء دي كابريو وهاردي وإخراج إيناريتو وتصوير لوبزكي. ترشح الفيلم لـ 12جائزة أوسكار انتزع ثلاثة منها.

هل يمثّل فيلم “العائد” مجرد ملحمة بقاء جسدي، أم أنه يُعيد بناء الكائن البشري في لحظة فقد مطلقة؟ كيف تشتغل العناصر الجمالية في الفيلم على إنتاج خطاب عن الألم بوصفه المعبر الأخير نحو الهوية؟

من ثيمة الانتقام إلى تمثّل الفقد


يتعرض صائد الفراء وابنه و11 فردا إلى هجوم من مجموعة من الأمريكيين الأصليين، الذين تم تصويرهم ليس فقط على أنهم “أعداء” ولكنهم قوة طبيعية عنيفة. بينما يستعد بضع عشرات من الرجال لحزم أمتعتهم والانتقال إلى محطتهم التالية في البرية، تخترق الأسهم الهواء واللحم بينما يفر عدد قليل من الرجال الناجين إلى قارب قريب.

يتبين أن القبيلة تبحث عن ابنة زعيمها المخطوفة، وسوف تقتل كل من يعترض طريقها. يأمر قائد الحملة أندرو هنري (دومينال جليسون) بمطاردة الرجال، لا يوافق جون فيتزجيرالد (توم هاردي) على المخطط، فتنمو بذور المعارضة بينهما. إنه لا يثق بهنري ولا يحب هيو غلاس.

يقتل فيتزجيرالد هوك ثم يدفن هيو حيا. مع عودة بريدجر وفيتزجيرالد إلى الوراء، يقوم  العائد من الموت ويبدأ سعيه للانتقام. بعظام مكسورة، بدون طعام، وأمامه أميال طويلة عليه أن يقطعها، يسحب نفسه عبر الثلج وعبر الجبال، باحثًا عن الرجل الذي قتل ابنه. إنه عمليا شبح، رجل اقترب من الموت حتى المساحة الصفر.


يمضي الفيلم على مسار سردي ظاهري: رجل نجا من الموت، يسعى للانتقام ممن قتل ابنه، لكن البنية العميقة للسرد لا تقوم على الانتقام بل على الفقد التحويلي إذ كلما فقد البطل شيئًا، خرج منه آخر أقوى، أعرق، وأكثر بدائية. في الواقع، لا يسعى “هيو غلاس” للانتقام بوصفه تصفية للخصم، بل كإثبات رمزي لوجوده، بعدما تم تجريده من كل شيء: اسمه، عائلته، لُغته، وزمنه. الفقد هنا هو المحرّك لا الحدث، والانتقام ليس غاية بل قوس عبور نحو ولادة ثانية.

الألم بوصفه كتابة على اللحم

يبدو فيلم “العائد” مثل نشيد طويل للجسد المجروح. كل لقطة تقريبية للوجه أو للصدر أو للجراح المفتوحة هي سرد صامت لا يحتاج حواراً. يتحوّل جسد هيو غلاس إلى نص تُنقش عليه علامات الطريق: خدوش، عضّات، كدمات، نزيف… هنا نستدعي تحليل إليزابيث غروس للجسد كتمثيل خارجي للكينونة: ليس الجسد المجروح موضعًا للضعف فقط، بل حقل تعبيري للألم، والعناد، والذاكرة. فلا يصور إيناريتو العنف من الخارج، بل يدخل تحت الجلد، ويجعلنا نحسّ بألم البطل لا كتعاطف بل كاختبار.
اعتدنا اشتغال السينما على ثيمة الطبيعة كملاذً حالم أو رومانسي، لكن في فيلم “العائد” تجسد الطبيعة فضاء موحشا تمثيلا للعراء الوجودي الأول، مكان أعمى لا يرحم: الثلوج، الرياح، الحيوانات المفترسة، الأنهار المتجمدة… كل عناصر الطبيعة هنا ليست حيادية، بل متواطئة ضد الإنسان. يرتبط هذا برؤية ما بعد رومانسية حيث لم تعد الطبيعة أُمًّا حنونًا بل فضاءا قاسياً يُمتحَن فيه الإنسان حتى أقصى درجات التعرية. يُذكّرنا هذا الطرح برؤية شوبنهاور: الإنسان ليس سيّد الطبيعة بل كائن هش يتوسل البقاء في عالم لا عقل له.

الإنسان حين يعود إلى العراء الأول

تحيل لحظات كثيرة في الفيلم إلى زمن “ما قبل التاريخ”: يأكل البطل كبد الحيوان نيئًا، يحتمي بجسد الحصان الميت ويتواصل بالإيماء مع السكان الأصليين… ليست هذه المشاهد استعراضًا إنها تعيدنا إلى أسئلة وجودية: ما الذي يُبقي الإنسان إن لم تبقَ حضارته؟ هل الهوية مرتبطة باللغة والثقافة أم بالجسد والذاكرة؟

يقدّم الفيلم الإنسان ككائن يتعرى من معانيه الحديثة، ليعود إلى الحيوان العاقل الجريح، وهذا يحيلنا إلى فينومينولوجيا ميرلوبونتي حيث الجسد لا يعبّر فقط بل يُكوِّن المعنى.

الأداء والسينما بوصفهما طقسًا شعائريًا

يقدم ليوناردو دي كابريو أداءً مذهلاً، يأخذه سعيه للبقاء في رحلة تجاور حدود الحياة والموت. بعد أن تم ترشيحه لجائزة الأوسكار عن فيلم What’s Eating Gilbert Grape و The Aviator و Blood Diamond و The Wolf of Wall Street، أبهر دي كابريو في فلم “العائد” وعلمنا عبر مسار الفيلم كيفية الانتصار بأداء يعتمد على الجسد أكثر من الكلمة المنطوقة.

نحس بقوة معاناة الممثل، وهناك مسحة ملموسة لمشاهد ديكابريو وهو يغرق في المياه الجليدية، ويدفن حياً، ويزحف إلى قلب جثة حيوانية لا تزال دافئة للنوم فيها. في هذه الأثناء، يبدو أن درجات الحرارة المتجمدة في البيئة الخلابة تتسرب إلى عظامه..

بعد أن نجح في الفوز بجائزة الأوسكار، قام المخرج أليخاندرو غونزاليس إيناريتو مرة أخرى بربط عربته بالذكاء الفني للمصور السينمائي إيمانويل لوبيزكي، الذي قام بعمل مبهر مع كاميراته الرقمية. عبر عدساتها الكاسحة ذات الشاشة العريضة، نجد أنفسنا منجذبين إلى أعماق البرية، ونصب الكمائن العنيفة والمواجهات التي تهدد الحياة التي تم التقاطها في لقطات طويلة منسقة بشكل رائع، والكاميرا تسير على الأقدام، على ظهور الخيل، عبر الغابات والسهول في المياه كما في البراري.

يقدّم ليوناردو دي كابريو في هذا الفيلم ما يتجاوز التمثيل التقليدي، الأداء أشبه بـطقس عبور كما في الثقافات البدائية. إنه يزحف، ينزف، يصرخ، يموت ويولد. يحوّل إيناريتو الكاميرا إلى شاهد على طقس التضحية والبعث: ولادة من جرح الدب، عبور النهر، النزول في لقلب الشتاء ثم العودة، لا كإنسان بل كـ”ظل منتصر”.

الرمزية والتأويل: المسيح، الإله، الأرض، الطوطم

ينفتح الفيلم على رمزية مكثفة: الجسد الذي يخرج من الحفرة (الدفن والبعث)، العلاقة بين الإنسان والحيوان (الدب، الذئب، الحصان)، العُري، الحمى، الهلوسة، الأحلام، علاقة البطل بالسماء والطين في مشاهد مختلفة. كل هذا يحيل إلى بنية شبه دينية، هيو غلاس ليس فقط ناجٍ، بل قدّيس دنيوي اختُبر بالألم. كما يمكن تأويل العلاقة مع السكان الأصليين حيث تمثّل ثقافتهم نوعاً من المرآة التي يرى فيها البطل هشاشته وبدائيته.

لا ينتصر الإنسان في فيلم “العائد”، لأنه أقوى، بل لأنه يمتلك القدرة على الألم دون أن يتحلل. هو لا يخرج من الغابة كما دخلها، بل يخرج منها وقد تخلّى عن كل شيء إلا القدرة على النهوض من الرماد.

الفيلم هو قصيدة سينمائية عن البقاء لا كحالة بيولوجية، بل كفعل رمزي إنه يُعيدنا إلى البدء: حيث لا مدنية، لا قانون، لا أخلاق بل فقط إنسان وحيد، جريح، يقف على عتبة الفراغ، ويقول: “أنا ما لم ينجُ غيري.”

الصورة كعقيدة حسية

حين اختار إيناريتو أن يصوّر فيلم The Revenant بكاميرا طبيعية دون إضاءة اصطناعية، لم يكن قراره جمالياً فقط، بل بدا لي ميتافيزيقياً. لأن “العائد” يعكس تجربة حسّية ووجودية تقود الكائن البشري إلى حافة الفناء، ثم تُعيد تشكيله. يُجبر البطل، هيو غلاس، في خلفية ثلجية، على المرور عبر العراء المطلق: الطبيعة، الموت، فقدان الابن، الغدر والبرد. يُعد عمل مدير التصوير إيمانويل لوبيزكي جوهريًا في الفيلم، حيث تصبح كل لقطة مقطعًا من نشيد بصري، الضوء الطبيعي زوايا الكاميرا الأرضية، اللقطات الطويلة، الغياب التام للموسيقى المهيمنة… كلها أدوات تخلق تجربة حسيّة ثقيلة ومضنية، تنقل المشاهد من المشاهدة إلى المعاناة الحسية.

ما يميز فيلم “The Revenant” هو فعاليته في نقلنا إلى مكان وزمان آخر، مع الحفاظ دائما على قيمته كقطعة فنية بصرية.

نحن لا نشاهد فيلما فقط لهذا العائد من الموت، بل نختبره. نخرج منه منهكين، مفتونين ومنبهرين بالجودة الشاملة لصناعة الفيلم وأكثر امتنانًا لقصة جميلة وسيناريو محبوك وتصوير غاية في الروعة وأداء ساحر للبطل ليوناردو دي كابريو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى