الرئسيةحول العالم

مغامرة «إسرائيل» تُدخِل إيران عصر الغموض النووي

على خلاف ادعاءاتهما المتكررة، يبدو أن «إسرائيل» والولايات المتحدة لم تنجحا في تدمير المشروع النووي الإيراني، بل ودفعتاها أكثر نحو سياسة الغموض النووي.

نشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة «فورين بوليسي» في 1 تموز 2025.

ترجمة موقع “حبر”

خلّفت حرب الاثني عشر يومًا بين «إسرائيل» وإيران دمارًا واسعًا في كلا البلدين. لكنّ أوضحَ ما يمكن استخلاصه هو أن مغامرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد فشلت. فرغم شنّ إحدى أكثر الحملات العسكرية جرأةً في تاريخ «إسرائيل»، كانت الحرب قصيرةً ومُؤذيةً، وفي النهاية لم تُحقّق أهدافها المُعلنة.

بدأ الأمر بهجوم إسرائيلي خُطِّط بدقة. وتُوّجت سنوات من العمل الاستخباراتي بموجة من العمليات السرية: طائرات مُسيّرة جُمّعت داخل إيران، وخلايا نائمة تُفجّر قنابل، واغتيالات استهدفت كبار الشخصيات العسكرية والعلماء. أعقبت ذلك غارات جوية تقليدية على قواعد عسكرية ومنشآت نووية مثل نطنز وفوردو. لكن أهداف «إسرائيل» امتدت إلى ما هو أبعد من البنية التحتية الاستراتيجية. فقد استُهدفت أيضًا أحياء سكنية وسجون ومكاتب إعلامية ومراكز شرطة، مما يُشير إلى استراتيجية أوسع نطاقًا تهدف إلى زرع الفوضى وإشعال فتيل الاضطرابات الداخلية.

في «إسرائيل» نزح أكثر من تسعة آلاف إسرائيلي

كانت الخسائر البشرية فادحة. في إيران قُتل ما لا يقل عن 610 أشخاص، من بينهم 49 امرأة و13 طفلًا وخمسة من العاملين في مجال الرعاية الصحية، وأصيب 4746 آخرون، من بينهم 20 من العاملين في مجال الرعاية الصحية. كما تضررت البنية التحتية الطبية بشكل كبير، حيث أُصيبت المستشفيات وسيارات الإسعاف ومرافق الطوارئ.

في «إسرائيل» أسفرت الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة الإيرانية عن مقتل 28 شخصًا على الأقل وإصابة أكثر من 3200 آخرين. نزح أكثر من تسعة آلاف إسرائيلي، وتضررت أو دُمرت عشرات المنازل والمباني العامة.

مع انقشاع الغبار، لا يزال المدى الحقيقي للضرر داخل إيران غامضًا. ويكشف هذا الغموض عن معضلة جوهرية تواجه «إسرائيل» وحلفاءها الأمريكيين: أن القوة العسكرية وحدها لا تضمن النجاح الاستراتيجي.

رغم تعهد نتنياهو بتفكيك برامج إيران الصاروخية والنووية، وأمله المُبطّن بتغيير النظام، ردّت إيران بسرعة، وأطلقت الصواريخ على مدن إسرائيلية وأهداف استراتيجية.

زادت طهران من تصعيدها بضرب قاعدة العديد الجوية الأمريكية في قطر

بعد انضمام الولايات المتحدة إلى الصراع بقصف المواقع النووية الإيرانية، زادت طهران من تصعيدها بضرب قاعدة العديد الجوية الأمريكية في قطر، مما جرّ واشنطن إلى عمق الأزمة.

ورغم أن ضربة العديد كانت مُعلنة ومحدودة الأثر، إلا أنها وجّهت رسالة مُتعمّدة: إيران قادرة على رفع مستوى المخاطر خارج حدودها.

بعد اثني عشر يومًا فقط من الضربة الإسرائيلية الأولية، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار بموجب شروط غامضة، الأمر الذي ترك المنطقة في حالة من التعليق غير المريح.

لا شك أن «إسرائيل» حققت نجاحات تكتيكية ملحوظة، وألحقت أضرارًا جسيمة بالقيادة العسكرية الإيرانية وبنيتها التحتية العلمية، لكن الأهداف الاستراتيجية لها وزن أكبر. واستنادًا إلى الأدلة المتاحة، فإن أهداف نتنياهو الأساسية -تقويض الردع الإيراني وإعادة العناصر الأهم في برنامجها النووي إلى الخلف بشكل ملموس- لم تتحقق.

يكمن أحد أهم الإخفاقات في الملف النووي. لا يوجد تأكيد على أن قدرة إيران على تحقيق اختراق نووي قد تدهورت بشكل ملحوظ. وبينما أصرّ مسؤولو إدارة ترامب على أن الضربات أعادت برنامج إيران إلى الوراء سنوات، تشير التقييمات الاستخباراتية الأمريكية والأوروبية المبكرة إلى عكس ذلك.

 أظهرت صور الأقمار الصناعية الملتقطة قبل الضربات شاحنات يُحتمل أنها تنقل معدات حساسة من مواقع رئيسية، وكانت إيران قد أعلنت بالفعل عن بناء منشأة تخصيب جديدة وسرية ومُحصّنة قد لا تُمس.

مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%

والأهم من ذلك، يبدو أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% وأجهزة الطرد المركزي المتطورة -وهي المكونات الأساسية لتطوير سلاح نووي- لا تزال سليمة. وكما حذّر العديد من المحللين قبل الحرب، فإن التحقق من الأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية النووية الإيرانية أمر مستحيل دون عمليات تفتيش ميدانية أو غزو شامل. وفي غياب أي منهما، يدخل البرنامج النووي الإيراني مرحلة أكثر غموضًا وصعوبة على التنبؤ.

بدأ هذا الغموض يتشكل بالفعل. فبعد يومين فقط من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف إطلاق النار، أقرّ البرلمان الإيراني تشريعًا لتعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. قدّم أحد النواب تفسيرًا مُلفتًا: «لماذا هوجمت منشآتنا النووية والتزمتم الصمت؟ لماذا أعطيتم الضوء الأخضر لهذه الأعمال؟ اليوم، يريدون العودة وإجراء عمليات تفتيش لتحديد المواقع المتضررة وغير المتضررة ليتمكنوا من مهاجمتها مجددًا». وردًا على ذلك، يبدو أن طهران عازمة على تبني استراتيجية «الغموض النووي»، على غرار الموقف الذي طالما اتبعته «إسرائيل» نفسها، رافضةً توضيح نطاق قدراتها النووية ومانعة وصول المفتشين.

يُمثل هذا التحول بداية فصل جديد. بمهاجمة المواقع النووية ومع استمرار المطالبة بالتفتيش والعقوبات، قوّضت الولايات المتحدة و«إسرائيل» منطق دبلوماسية منع الانتشار. ومن المفارقة أن أفعالهما ربما ساهمت في تطبيع فكرة السلاح النووي الإيراني أكثر من أي خطوة اتخذتها طهران نفسها.

تجلّت قدرات إيران الصاروخية بوضوح لا لبس فيه

في حين أن النتيجة النووية غير مؤكدة، فقد تجلّت قدرات إيران الصاروخية بوضوح لا لبس فيه. نجحت صواريخها الباليستية في اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية والأمريكية، مستهدفةً قواعد عسكرية، ومقرات استخباراتية، ومصافي نفط، ومراكز أبحاث. ورغم أن الرقابة الإسرائيلية حدّت من التغطية الإعلامية، فقد قُدّمت أكثر من 41 ألف مطالبة تعويض عن أضرار الحرب.

كانت التكاليف المادية والاقتصادية كبيرة أيضًا. أُغلق مطار بن غوريون، وتباطأ النشاط الاقتصادي بشكل كبير، وتزايد هروب رؤوس الأموال. واستُنفدت أنظمة الدفاع الصاروخي، مثل السهم وثاد، بشكل كبير، وتشير التقديرات إلى أن «إسرائيل» استخدمت ما لا تقل قيمته عن 500 مليون دولار من صواريخ ثاد الأمريكية الاعتراضية. وأكد مستشار ترامب السابق، ستيف بانون، صراحةً أن وقف إطلاق النار كان ضروريًا «لإنقاذ إسرائيل»، التي قال إنها تتلقى «ضربات قاسية» وتعاني من نقص في دفاعاتها. واعترف ترامب نفسه بأن «إسرائيل» تضررت بشدة، وأعلن في نفس المؤتمر الصحفي أنه سيُسمح للصين بشراء النفط الإيراني لمساعدة إيران على «استعادة عافيتها».

بدت الضربات الصاروخية الإيرانية محسوبة بشكلٍ مُتعمّد. فبعد غارة إسرائيلية بطائرة مُسيّرة استهدفت مصفاة نفط إيرانية في حقل غاز جنوب فارس، ردّت إيران باستهداف مصفاة في حيفا. وبعد أن استهدفت الغارات الجوية الإسرائيلية مراكز أبحاث إيرانية يُشتبه في ارتباطها بأنشطة نووية، ردّت إيران بضرب معهد وايزمان للعلوم قرب تل أبيب، وهو منشأة يُشتبه منذ فترة طويلة بأن لها دورًا في الأبحاث النووية الإسرائيلية. ومن خلال هذه الهجمات المتبادلة، سعت إيران إلى إظهار قدرتها على الردّ المدروس وتعزيز موقفها الرادع. والجدير بالذكر أن كلا الجانبين امتنعا عن استهداف البنية التحتية للطاقة بعد تبادل إطلاق النار الأولي.

خارج ساحة المعركة، كانت للحرب عواقب اجتماعية وسياسية مهمة داخل إيران. فبدلًا من أن تُشعل فتيل انهيار النظام، أدّت إلى تصاعدٍ ملحوظ في المشاعر القومية. بالنسبة لمجتمعٍ عانى طويلًا من الاستقطاب بسبب القمع والمعاناة الاقتصادية، أصبحت الحرب لحظةً مُوحِّدة؛ ليس حول الجمهورية الإسلامية نفسها، بل حول فكرة الدفاع عن الأمة من العدوان الأجنبي.

عزز التوقيت هذا الشعور بالتضامن الوطني. فقد اندلعت الحرب في الوقت الذي كانت فيه إيران منخرطة في مفاوضات نووية مع إدارة ترامب. وكان كثير من الإيرانيين يأملون أن يؤدي انتخاب الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان مؤخرًا، الذي ركزت حملته الانتخابية على الدبلوماسية والانتعاش الاقتصادي، إلى تقدم ملموس. لكنهم بدلًا من ذلك، رأوا بلادهم تُقصف بينما كانوا يسعون إلى تسوية.

ردًا على ذلك، حشدت شرائح واسعة من المجتمع الإيراني -من فنانين ورياضيين إلى إيرانيين متدينين وعلمانيين، بمن فيهم كثيرون من الجيل Z– قواها لدعم بعضها البعض. فتح المدنيون منازلهم للنازحين، وعزز مقتل الأطفال والأطباء وعامة الناس جراء الغارات الإسرائيلية العشوائية تصورًا بأن هذه الحرب لم تكن تهدف إلى تحرير الإيرانيين، بل إلى تفكيك البلاد.

إن الاعتقاد الراسخ لدى كثيرين في واشنطن بأن الحكومة الإيرانية تحتاج فقط إلى دفعة خارجية أخيرة لسقوطها قد ثبت بطلانه تمامًا.

شن نتنياهو هذه الحرب للقضاء على التحدي الاستراتيجي الذي تُمثله إيران. لكنه كشف عن نقاط ضعف «إسرائيل»، وعزز القومية الإيرانية، وفشل في تدمير القدرات العسكرية والنووية الأساسية لإيران.

المفارقة أن الحرب قد تُعزز في المحصلة موقف إيران إقليميًا ودبلوماسيًا. فبينما يُصرّ ترامب ومبعوثه ستيف ويتكوف على ضرورة تخلي إيران عن تخصيب اليورانيوم، تُصرّ طهران على أن التخصيب غير قابل للتفاوض. وقد أكد وزير الخارجية عباس عراقجي علنًا أن إيران لن تتنازل أبدًا عن هذا الحق. في الوقت نفسه، أشار ترامب إلى استعداده لتخفيف العقوبات، بل وحتى السماح للصين بشراء النفط الإيراني، مُعتبرًا ذلك جزءًا من «تقدم كبير» نحو الهدوء الإقليمي.

تعكس هذه الإشارات المتضاربة واقعًا أعمق: يبدو أن كلًا من واشنطن وطهران تركزان بشكل متزايد على دفع الوضع للاستقرار بدلًا من حل النزاع النووي الكامن. ووفقًا لشبكة CNN، انخرطت إدارة ترامب في محادثات سرية -بعضها عُقد حتى في ذروة الحرب- تقترح استثمارًا يصل إلى 30 مليار دولار في برنامج نووي مدني في إيران، بشرط تخلي إيران عن التخصيب. وتشمل هذه المقترحات أيضًا تخفيف العقوبات والوصول إلى الأموال الإيرانية المجمدة. وبينما يؤكد المسؤولون الأمريكيون أن وقف التخصيب تمامًا خط أحمر، فإن الدفع نحو اتفاق جديد يشير إلى تحول في الأولويات.

عمليًا، قد يكون كلا الجانبين الآن على استعداد لقبول الغموض الاستراتيجي. فبدلًا من المطالبة بتفكيك البنية التحتية النووية الإيرانية التي يدّعي ترامب أنها مُدمّرة بالفعل، تبدو الولايات المتحدة منفتحة على خفض التصعيد من خلال الدبلوماسية والحوافز الاقتصادية. من جانبها، تبدو إيران راضية بالحفاظ على قدراتها الحالية بطريقة مبهمة مع تجنب المزيد من التصعيد. قد تسمح هذه البراغماتية المتبادلة بخفض التصعيد، لكنها تترك القضية النووية الجوهرية دون حل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى