هناك أصوات لا تُعوّض، ورجال إذا غابوا انكسر فينا شيء لا يجبره الزمن. سيون أسيدون واحد من هؤلاء…
رجل حمل فلسطين في قلبه، والمغرب في روحه، ودفع ثمن مواقفه سنيناً وراء القضبان. اليوم، وهو يصارع أزمة صحية، نصلي جميعاً أن يقوم من فراشه ليعود إلى معركته الأبدية ضد الظلم، لأن خسارته الآن ستكون جرحاً آخر في زمن مثقل بالجراح المفتوحة في غزة وفي غير غزة .
يعلم الله كم تأثرتُ لحالة الرجل النبيل سيون أسيدون، لما ألمّ به من أزمة صحية نسأل الله أن ينهض منها سالماً معافى.
فلا قدرة لنا على خسارة صوت فلسطين الأول في المغرب في هذه الظروف، ولا قدرة لنا على احتمال غياب رجل حر وهب نفسه وحياته وصحته وماله ووقته للقضايا العادلة، وأدى ثمناً غالياً وراء القضبان في ما يسمى سنوات الرصاص، وما بدّل تبديلاً.
أسيدون… افتح عينيك، فقلوب مغاربة كُثر تدعو لك وترفع أكفّها لله أن يطيل في عمرك، فما أحوجنا إلى نضالك من أجل غزة وأطفالها، ووسط حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، وفي ساحات الدفاع عن حقوق الإنسان… كل إنسان.
مرّة كتب صحافي إسرائيلي في جريدة هآرتس، وكان يغطّي أخبار المغرب بمناسبة جولة “الاتفاق الإبراهيمي” على العواصم العربية، متسائلاً:
كيف يوقّع سعد الدين العثماني، الإسلامي، على وثيقة التطبيع مع إسرائيل، ويخرج سيون أسيدون، اليهودي، ليحتجّ في الشارع ضد هذا التطبيع؟ هذا لا يمكن أن يحدث إلا في المغرب.
دائماً ما كان أسيدون يعرف نفسه بأنه مغربي أولاً، وإذا أردت أن تضيف إلى هذه الهوية الوطنية انتماءه الديني، فلك أن تقول من عائلة يهودية ثانياً… لكنه إنسان أولاً وأخيراً.
ينتمي إلى طائفة من المغاربة اليهود الذين كان قلبهم يخفق لفلسطين، وعقلهم يتبرأ من الصهيونية التي اقتلعت آلاف المغاربة اليهود من تربتهم، ورمت بهم في خيام الكيبوتزات، ودَفعتهم ليصبحوا خزّاناً بشرياً في آلة الاحتلال، التي تحوّلت لاحقاً إلى نظام تمييز عنصري ضد أصحاب الأرض وهي تتورط في أسوء جريمة في التاريخ : الإبادة الجماعية للفلسطينيين الذين قتلت منهم في 22 شهرا فقط اكثر من 61 الف ثلثهم من الأطفال .
أسيدون هو ابن هذا التقليد الذي رعاه، وسط اليسار المغربي، رجال أمثال جرمان عياش، وإدموند عمران المليح، وأبراهام السرفاتي، وشمعون ليفي، وغيرهم كثير.
في التراث اليهودي القديم (أقوال الآباء 2:5) مقولة ذات دلالة إنسانية عميقة تقول :
“في مكان لا يوجد فيه رجال، كن أنت الرجل.”
أي تحمّل مسؤولية الدفاع عن الحق حتى إذا غاب الآخرون. وهذا ما فعله أسيدون بالضبط، في زمن صمت فيه كثير من اليهود المغاربة عن ذبح أطفال غزة ومجازرها ومجاعة أهلها وبربرية نتنياهو…في الوقت الذي صمت الآخرون نطق هو واختار الجانب المشرق من التاريخ والمشرف من الإنسانية …
ما زلتُ أتذكر يوم دعاني أسيدون إلى اصطحابه في جولة على أسواق المدينة القديمة بالدار البيضاء، في أول أيام شهر رمضان، حيث توقف عند بائعي التمر ليحذّرهم من شراء وبيع التمور الإسرائيلية القادمة من المناطق المحتلة، باعتبارها تموراً ملوثة بالدم وبآثار الاحتلال، يجب مقاطعتها كشكل من أشكال المقاومة، ودعماً لنضال الشعب الفلسطيني.
كان الباعة يُصدمون عندما يقترب منهم أسيدون بلباسه المغربي التقليدي ولهجته البيضاوية، ويعرفون أنه يهودي يساند الشعب الفلسطيني أكثر من كثير من المغاربة. كان يقول كلمته ويمضي، بلا إلحاح، لكن بثبات وقناعة لا تهزها ريح.
هذا هو ابن الأرض الطيبة، التي لا تنام على ضيم، ولا تسكت على محتل، ولا تطبع مع مجرم حرب. وحتى إذا نسي البعض تاريخ هذه الجغرافيا، فإن أمثال أسيدون موجودون هنا ليذكّروهم أن شعار “منبت الأحرار” موقفٌ قبل أن يكون جملة في نشيد يردده هذا وذاك بلا قناعة ولا إيمان.
أسيدون… قم من سريرك، وتشبّث بالحياة، فما زال على هذه الأرض ظلم وجوع وشهداء واحتلال وأطفال بلا صوت ينتظرون من يمنحهم صوته.
احمل كوفيتك المرقطة، وغادر غرفة الإنعاش عندما ينام الأطباء والممرضون، فعلى هذه الأرض ما يستحق البقاء إلى جانب المهزومين، لأن من يمنح صوته للمهزومين ويقف في الصف الصحيح من التاريخ، يجعل انتصار المحتلين موضع سؤال..