الرئسيةرأي/ كرونيك

اليسار المغربي في الزمن الرقمي

بقلم عبدالرحمان الغندور

بعيدا عن العدمية ولغة التيئيس، ومن أجل حوار هادئ وفعال يساهم في بناء جسور الأمل في مواجهة الانهيارات الشاملة التي يعرفها واقعنا، نساهم بهذه الورقة.

 

يواجه المغرب اليوم تحديات عميقة تعكس تدهوراً فاضحا في المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي، يهيمن عليه استشراء الفساد كظاهرة بنيوية، واختلالات مجحفة في توزيع الثروة والفرص، وأزمة ثقة بين المواطن والمؤسسات، كل المؤسسات، بما فيها المؤسسة الملكية، وتآكل مستمر لقيم المواطنة. وفي قلب هذه العاصفة، يبدو اليسار المغربي التقليدي، بتياراته المتعددة، وكأنه فقد بوصلته وبريق تأثيره، عاجزاً عن تقديم رؤية مقنعة أو قيادة حركة تغيير حقيقية. إلا أن الزمن الرقمي يفتح أفقاً جديداً، ليس فقط للتحدي، بل لفرصة تاريخية من أجل إعادة تشكيل الذات والفعل، شريطة أن يجرؤ اليسار على مراجعة جذرية.

ما نعيشه في وطننا من انهيارات يعكس أزمة متعددة الأبعاد

الجميع اليوم يتفق على أن ما نعيشه في وطننا من انهيارات يعكس أزمة متعددة الأبعاد. فقد تحول الفساد من ممارسات فردية إلى نظام معقد يخترق الإدارة والاقتصاد والخدمات الاجتماعية، مما يقوض أسس العدالة ويفقر المواطن ويقتل الأمل. الشيء الذي يؤكده اختلال المشهد السياسي، دولة وأحزابا وضعف المشاركة السياسية، وغياب المحاسبة الفعلية، وتهميش أدوار جميع المؤسسات. وكلها عوامل أسست لواقع سياسي ومجتمعي مشوه تعكسه الأزمات الاجتماعية والثقافية وتفاقم الفوارق الطبقية، وأزمة التعليم والصحة، وبطالة الشباب المتفاقمة، وتآكل النسيج الاجتماعي والهوية الثقافية تحت وطأة الإقصاء واللامساواة.

ويساير كل هذا، ما يعيشه اليسار من جمود فكري من خلال التمسك بتحليلات وشعارات لم تعد تستجيب لتعقيدات الواقع الجديد.

وما يصاحب ذلك من قصور تنظيمي وهياكل عفا عليها الزمن، وعجز عن استقطاب جيل الشباب الرقمي. ويتغذى هذا الجمود الفكري من الانقسام والهامشية والتشرذم بين التيارات والصراعات الداخلية التي تفقد اليسار كتلته الحرجة والمزعجة وتضعف قدرته على التأثير الجماهيري، من خلال الانفصال عن القواعد وضعف التواصل مع هموم المواطن اليومية ومعاناته الملموسة.

الحاجة لبناء محتويات جذابة وهادفة وإنتاج محتوى سمعي بصري مبدع

وهذا ما يفرض التعامل مع الزمن الرقمي، بعقلية جديدة، وبراديغمات متطورة، باعتباره يقترح أدوات جديدة للتحدي الذي لا يقتصر على منصات التواصل فحسب، بل يمثل ثورة في طرق التفكير والتواصل والتنظيم.

وهنا تكمن فرصة اليسار، إذا تجاوز النظر إليها كوسيلة إعلام فقط وابتدأ منذ الآن في التعامل مع المراجعات اللازمة واعتماد النقد الذاتي الرقمي من خلال تحليل الواقع بآليات جديدة واستخدام تحليل البيانات الضخمة لفهم ديناميكيات الفساد، خرائط الفقر، تدفقات رأس المال غير المشروع، وميول الرأي العام بدقة تفوق الاستطلاعات التقليدية.

الشيئ الذي يتطلب نقد الذات اليسارية علناً وشعبياً وفتح حوارات نقدية واسعة عبر منصات رقمية وازنة حول إخفاقات اليسار ومستقبله، بمشاركة فاعلة من الشباب والنشطاء، بعيداً عن الأطر الحزبية الضيقة. الشيء الذي سيساهم في إعادة صياغة الخطاب وتطوير خطاب يساري معاصر، واضح، يركز على قضايا العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ومكافحة الفساد بوصفها أولويات ملموسة، بلغة بسيطة تصل للجميع وتستجيب للروح النقدية للشباب.

فأولوية الأولويات اليوم هي استقطاب الشباب وبناء حركة التغيير عبر اللقاء معهم حيث يتواجدون، وبناء حضور قوي وفعال على المنصات الرقمية التي يستهلكونها ويُنتجون فيها (تيك توك، إنستغرام، يوتيوب، مجموعات واتساب، منتديات…).

وهذا يستدعي بناء محتويات جذابة وهادفة وإنتاج محتوى سمعي بصري مبدع (فيديوهات قصيرة، إنفوغرافيك، بودكاست، ميمات) يشرح قضايا العدالة والفساد والديمقراطية بشكل مشوق، ويعرض نماذج نضالية محلية وعالمية. كما يستدعي إنشاء منصات رقمية تفاعلية للتوعية الحقوقية، والتثقيف السياسي، ورصد الانتهاكات، وتنظيم الحملات الافتراضية والواقعية (توقيعات، ضغط، تظاهرات افتراضية ومنظمة). الشيء الذي يقوي دعم المبادرات الشبابية المستقلة المناهضة للفساد والداعية للعدالة، وتوفير التدريب الرقمي والمهارات التنظيمية لهم، دون محاولة احتوائهم حزبياً.

إن عملا من هذا القبيل، من شأنه أن يعمل على بناء الجبهة الوطنية التاريخية وفتح الحوار الرقمي الواسع وتجاوز الحساسيات الأيديولوجية باستخدام الفضاء الرقمي لفتح حوار جريء وشامل مع كل القوى والفاعلين (إسلاميين، ليبراليين، نقابات، جمعيات حقوقية، حركات احتجاجية، مثقفين مستقلين) الذين يتقاسمون الهدف الأساسي في محاربة الفساد وبناء دولة القانون والمواطنة والعدالة الاجتماعية.

توظيف الوسائط الرقمية لتوثيق حالات الفساد والأزمات الاجتماعية بشكل مهني

من خلال إنشاء فضاءات رقمية مشتركة (منتديات، مجموعات عمل) مما سيساهم في تحديد القواسم المشتركة، وصياغة مطالب موحدة، وتنسيق الحملات والضغط حول قضايا محددة (شفافية الميزانية، محاربة الريع، استقلال القضاء…). كما سيسمح بتوظيف الوسائط الرقمية لتوثيق حالات الفساد والأزمات الاجتماعية بشكل مهني، ونشر التحليلات المشتركة التي تفضح المنظومة وتقدم البديل. إلى جانب تنظيم حملات تضامن رقمية واسعة مع ضحايا الفساد والانتهاكات، وتعزيز الشعور بالتضامن الوطني من أجل خلخلة الواقع وتغيير ميزان القوى نحو ديمقراطية المواطنة.

هذه المراجعة الجذرية والتحول الرقمي ليسا غاية، بل وسيلة لتحقيق أهداف أكبر:

– إعادة الاعتبار للفعل السياسي: عبر نضال ملموس، شفاف، وقريب من الناس، يعيد لليسار (ضمن جبهة واسعة) الثقة في إمكانية التغيير عبر السياسة.
– خلخلة توازن القوى: عبر كشف آليات الفساد والهيمنة وتنظيم الضغط الشعبي الرقمي والواقعي، يمكن إجبار النخب المهيمنة على التراجع وفتح مساحات للمساءلة.
– بناء قوة شعبية رقمية-واقعية: دمج القوة التنظيمية التقليدية (النقابات، الجمعيات) مع الطاقة الاحتجاجية والإبداعية للشباب في الفضاء الرقمي، لخلق حركة اجتماعية وسياسية ضاغطة لا يُستهان بها.
– ويكون الهدف النهائي هو نظام سياسي يقوم على المشاركة الفعالة، المحاسبة، سيادة القانون، العدالة الاجتماعية، واحترام كرامة الإنسان – مجتمع المواطنة الفاعل.

من واجب اليسار هنا والآن أن يتخلى عن نخبويته وعناد أيديولوجيته العقيمة

إن الزمن الرقمي ليس رفاهية لليسار المغربي، بل هو ساحة المعركة الجديدة وشرط بقائه وتجدده. والفرصة قائمة اليوم، لكنها مشروطة بشجاعة نقد الذات، ومراجعة عميقة للقناعات والأدوات والأشكال التنظيمية.

فمن واجب اليسار هنا والآن أن يتخلى عن نخبويته وعناد أيديولوجيته العقيمة، وينفتح على لغة العصر وهموم الشباب، ويتجرأ على بناء تحالفات واسعة وجريئة حول أهداف وطنية مشتركة، وبهذا فقط يمكن لليسار أن يكون قاطرة التغيير المنشود.

إنها لحظة تاريخية تتطلب جرأة في التفكير والفعل، فهل ينهض اليسار المغربي لتحمل مسؤولياته في الزمن الرقمي، أم سيظل حبيس ماضيه، شاهدا على استمرار التدهور؟ الإجابة تكمن في قدرته على المراجعة الجذرية واغتنام أدوات العصر لبناء جبهة وطنية تعيد الأمل وتصنع المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى