صيحة في واد، لكنها غدا ستهز الأوتاد
لن نصمت بالرغم من كل شروط الاحباط
بقلم عبدالرحمان الغندور
لا احد ينكر اليوم أن الجسد المغربي يعاني من داءٍ استشرى في عظامه، ونخر في لحمه، إنه داء الفساد الذي لم يعد خافياً على ذي عينين، بل أصبح هو القاعدة، وهو النظام، وهو اللغة السائدة في التعامل بين الدولة والمجتمع، وبين أفراد المجتمع أنفسهم. ولا نغالي إذا قلنا بأن الفساد اصبح دينا كامل الأركان، انتهى من مرحلة الدعوة الخفية، إلى الدعوة العلنية، ليصل الى مرحلة الغزو وتحقيق الانتصارات الكبرى.
لم يعد الفساد ذلك الشيطان الذي يتربص في الزوايا المظلمة، أو ذلك الفعل المستتر الذي يُخجل فاعله، بل أصبح بَغياً علنياً، صارخاً بلا حياء، يُمارس في وضح النهار، تحت سمع السلطة وبصرها، بل وغالباً ما تكون هي المحرِّك الأساسي له، والمستفيد الأكبر منه. لقد تسللت آلياته إلى كل مفصل من مفاصل الحياة، من أعلى قمة الهرم حيث تُتخذ القرارات المصيرية، إلى أبسط معاملة في أدنى دركات الإدارة المحلية.
العبادة فيه هي إخفاء الحقائق وراء خطاب براق عن التنمية والتقدم
لقد أصبح الفساد دينٍا جديدٍا له أتباعه المخلصون وطقوسه المقدسة ومساجده المنتشرة في كل ركن.
لم يعد مجرد أفعال منعزلة أو تجاوزات يمكن تداركها، بل تحول إلى نظامٍ عقائدي وسلوكي متكامل، له قوانينه غير المكتوبة، ولاهوته السري، ومريدوه الذين يؤمنون به إيماناً عميقاً.
تبدأ طقوس هذا الدين الجديد من أعلى قمة الهرم، حيث يوجد القساوسة الكبار محاطون بهالة من القداسة الزائفة.
وهناك، في تلك الغرف المغلقة، تُقرأ التعويذات وتُقدم القرابين، كوعود وامتيازات. الصلاة هنا هي تبادل المصالح، والعبادة هي إخفاء الحقائق وراء خطاب براق عن التنمية والتقدم، بينما الجوهر يتحلل بفعل نخر لا يتوقف.
تمتد شبكة الدين الجديد المتينة لتشمل كل مفصل من مفاصل الحياة. في السياسة، يصبح الولاء للزعيم الفاسد هو الركن الأول من أركان “الإيمان”، والصلاة من أجل المقاعد ليس سعياً لخدمة الجمهور، بل هو استباحة للمال العام والسلطة.
الخطاب السياسي تراتيلَ مكرورة تهدف إلى تهدئة العامة وإيهامهم بأن ما يجري هو من أجل مصلحتهم
والانتخابات تتحول إلى موسم حجٍ كبير، يهرع فيه الناس لتأدية مناسك التصويت، لكن الصناديق تُفتح على نتائج محسوبة سلفاً، وكأنها قدرٌ مقدور لا فكاك منه. ويصبح الخطاب السياسي تراتيلَ مكرورة تهدف إلى تهدئة العامة وإيهامهم بأن ما يجري هو من أجل مصلحتهم.
وفي الاقتصاد، تتحول السوق إلى معبدٍ تُقام فيه شعائر المضاربة والاحتكار والرشوة. رجال الأعمال يقدمون قرابينهم للجهاز الإداري المعقد لينالوا بركته في صورة صفقات أو تراخيص. المال الحرام لا يعود عاراً يُتوارى عنه، بل يصبح وسام شرف، دليلاً على الذكاء والدهاء وقدرة صاحبه على “تدبير الأمر”. والمشاريع الكبرى تبنى على أساس من الهشاشة والاختلاسات، بينما تُرفع التقارير المزورة كأدعية شكر على إنجازات وهمية.
الدين الجديد لا يقتصر على السياسة والاقتصاد بل يمتد ليفسد الثقافة
ولا يقتصر أمر الدين الجديد على السياسة والاقتصاد، بل يمتد ليفسد الثقافة ويشوه الذوق العام. فالإبداع الحقيقي يُحاصر ويُهمش، بينما يُروج للإنتاج الهابط الذي يمجّد القيم السلبية وينشر الغباء والانحطاط. يصبح الفنان أو المثقف إما نبياً لهذا الدين الجديد، يبرر أفعاله ويمدح رجاله، أو ينزوي في صومعة العزلة والإهمال. وهنا تتحول الثقافة نفسها إلى سلعة في سوق النخاسة، تُشترى وتباع بأبخس الأثمان.
الأخطر من ذلك كله هو غزو هذا “الدين” لمجال الأخلاق والقيم. فالكذب لم يعد خطيئة، بل مهارة. والنفاق لم يعد رذيلة، بل ضرورة للبقاء. والصدق والاستقامة أصبحا سذاجة تستحق السخرية. لقد تم قلب الموازين رأساً على عقب، فأصبح التمسك بالقيم هو الاستثناء، والانغماس في مستنقع الفساد هو القاعدة. حتى العلاقات الاجتماعية لم تسلم، فالتعارف والتقارب صار مبنيّاً على “من يعرف من” و”من يقدر على ماذا”، متجاوزاً كل معاني الإنسانية والنبل.
هكذا يعيش المجتمع تحت سطوة هذا المعتقد الفاسد، الذي يفرض هيمنته بقوة. ويصبح المواطن البسيط إما تابعاً مأموراً يؤدّي الجزية من كرامته وقوته اليومي، أو خارجاً عن “الملة” معرّضاً للتهميش والإقصاء.
لكن رغم قوة هذا الكيان الظاهر، تبقى جذوة المقاومة متقدة في القلوب النظيفة التي ترفض أن تتحول أوطانها إلى معابد للظلام، مؤمنة بأن زمن كل دين زائف إلى زوال.
الدين الجديد يبدأ ببناء التحالفات على أساس المصالح الشخصية والمنافع الفئوية الضيقة، لا على أساس الكفاءة والنزاهة وحب الوطن. لقد أصبحت المناصب العليا وجوائز الاستثمار المربحة وجميع مواقع المسؤولية تُباع وتُشترى، أو هي غنائم تُقتسم بين أبناء عائلات محددة أو الحاشية الموثوق بها.
القرارات الاقتصادية الكبرى، من صفقات الخوصصة إلى منح الصفقات العمومية، لا تخضع لمعايير الشفافية والمنافسة، بل لتوازنات القوى وعلاقات القرابة والولاءات الشخصية. هذا الدين الجديد لم سراً، الجميع يتحدث عنه في المجالس الخاصة، بل أصبح جزءاً من الطقوس السياسية التي يُتناولها بنوع من السخرية الممزوجة باليأس.
هذا الدين العلوي لا يبقى في الأعلى، بل يتساقط كالمطر الآسن على كل ما تحته. إنه يخلق نموذجاً يحتذى به، بل يفرض منطقاً جديداً للبقاء.
فها هو الفساد الإداري ينتشر في جميع دواوين الدولة وإداراتها، حيث الرشوة هي اللغة الوحيدة لفكّ ألغاز التدبير المعقدة أصلاً. لا يمكن للحاصل على شهادة علمية أن يحصل على وظيفة إلا بوساطة مكلفة، ولا يمكن لصاحب مشروع صغير أن يحصل على ترخيص إلا ب”هدية” لمُوظفٍ ما، ولا يمكن لمريض بسيط أن يُعاينه طبيب مختص في المستشفى العمومي في وقت معقول دون ” دهن السير “. لقد تحولت الخدمة العمومية إلى سوق سوداء، تُباع فيها الحقوق الأساسية للمواطن بكل الاثمان
ويبرز الدين الجديد ” متنورا ” في معبد القضاء، وهو حصن الحق الأخير، فقد تسرب السوس إلى جدرانه. فالقضاة، جلهم أو بعضهم، لم يعودوا أمناء على العدل، بل أصبحوا ألعوبة في أيدي أصحاب النفوذ والمال. القضايا تُسقط مقابل مال، والأحكام تُشترى، وحقوق الناس تُزهق ببرودة أعصاب، بينما يفلت كبار الفاسدين من العقاب،
محميين بجيوش من المحامين وبشبكات مصالح متشابكة تصل إلى أعلى الهرم. لقد فقد المواطن البسيط الثقة في عدالة بلاده، فهو يعلم أن خصمه إذا كان ذا جاه أو مال، فالقضية خاسرة قبل أن تبدأ.
وفي مسجد الاقتصاد، يتفق المتعبدون على التطهر من ” نجاسة ” روح المنافسة الشريفة. فالسوق محتكرة من قبل أوليغارشيات متحالفة مع دوائر النفوذ. والشركات الكبرى تبتلع الصغرى ليس لأنها أفضل، بل لأنها “محمية”.
والأسعار تُرفع بشكل تعسفي، والجودة تُهدر، والمواثيق الأخلاقية في العمل تُنتهك، كل ذلك تحت سمع القانون الذي يتحرك فقط ضد الضعفاء والعزل. لقد خلق هذا اقتصاداً طفيلياً، يعيد إنتاج الثروات في دوائر مغلقة، ويوسع هوة التفاوت الاجتماعي إلى حدود مأساوية، حتى أصبحنا نعيش في مغربين: مغرب القصور الفاخرة والسيارات الفارهة، ومغرب الأحياء الهامشية والبطالة المقنعة.
أما زوايا التصوف الثقافي والفني والإعلامي، فقد أصبحت مراكز لترديد وإنتاج كل ما يقرب من أصحاب “البلاط” وأصحاب القرار. وتحول الجميع إما إلى تابعين مؤمنين بالدين الجديد بما يغدقه عليهم من منافع ومكاسب.
الإعلام الرسمي والثقافة المبتذلة بكل أسف، تحولا إلى بوق لتلميع صورة الواقع المزري
وإما كافرون محكوم عليهم بالإقصاء والتهميش. فالإعلام الرسمي، والثقافة المبتذلة بكل أسف، تحولا إلى بوق لتلميع صورة الواقع المزري، وإلى آلة لغسل أدمغة المواطنين بتضخيم إنجازات وهمية واختراعات كاذبة.
أما الإعلام الخاص، فجزء كبير منه أصبح رهيناً لدى أصحاب الأموال، يوجهه كيفما يشاء لخدمة مصالحه، أو لتبخيس وتسفيه أمة الكافرين بالدين الجديد.
وأهم منجزات هذا الدين الجديد، هو تجاوزه للمجال المادي، واختراقه للنفوس، والفتك بالأخلاق، وتقويض القيم. لقد ساد منطق “الغاية تبرر الوسيلة”، و”إما أن تأكل أو تُؤكل”. لقد خرب الدين الجديد الفضائل المجتمعية من تعاون وتضامن وتآزر، وحلت محلها الأنانية الفجة والجشع والوصولية. لم يعد الناجح هو الأكثر كفاءة أو أخلاقاً، بل هو الأكثر مرونة و”ذكاء” في لعبة المصالح. لقد أصبح للدين الجديد صلوات يتم التعبد بها في كل وقت.
لقد جعلنا الدين الجديد أمام نتيجة حتمية، هي تفكك النسيج الاجتماعي، وانعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم، وبين المواطن وأخيه المواطن.
لقد أصبح الجميع يشعر بالغبن، الجميع يشعر بأنه ضحية لنظام ظالم.
هذا الشعور المشترك بالإحباط واليأس هو بيئة خصبة للصراعات الداخلية، وللفتن الطائفية والإثنية والجهوية، ولكل ما من شأنه أن يهز أركان الوحدة الوطنية.
وهنا مكمن الخطر الأعظم لهذا الدين الجديد، فحين تفقد الدولة مصداقيتها، وحين يصبح العقد الاجتماعي بينها وبين شعبها مهترئاً، فإن شرعية كل المؤسسات تصبح في مهب الريح بما فيها تلك التي تُعتبر خطاً أحمر.
إن الإعصار الذي يحذّر منه العقلاء ليس خيالاً، إنه تهديد حقيقي.
فالشعب الذي يصل إلى حافة اليأس، قد يثور بلا قائد، وبلا بوصلة، فيدمر كل شيء في طريقه، الأخضر واليابس، دون تمييز. التاريخ يعلمنا أن السخط العام حين يتحول إلى طوفان، لا يعرف حدوداً، ولا يحترم مقدساً.
إن المغرب اليوم في ظل الدين الجديد، على شفا هاوية سحيقة، والعبث بمقدراته ومستقبل أبنائه لم يعد مقبولاً.
إن الإنقاذ لن يأتي من السماء، بل يجب أن ينبع من إرادة جماعية صادقة، تبدأ بالاعتراف بالمرض، ثم تشخيصه دون مواربة، ثم استئصاله بلا رحمة، بدءاً من رؤوس الأفاعي. إنها معركة مصيرية بين قوى الفساد المدمرة التي يكرسها الدين الجديد، وقوى الحياة التي تريد أن تبني وطناً يستحق العيش فيه. وإنَّ التأخر فيها يعني، لا سمح الله، أن نستيقظ يوماً على دوي انهيار كل ما نحب، وكل ما نعتز به.