الرئسيةرأي/ كرونيك

800 درون في سماء الرباط..حين يطير التراث على أجنحة الملايين!

تحرير: جيهان مشكور

في بلد يئن تحت وطأة أزمات السكن، والتعليم، والصحة، والبطالة، تطير 4.3 مليون درهم على شكل 800 طائرة “درون” في سماء الرباط، في عرض ضوئي باذخ ترعاه وزارة الشباب والثقافة والتواصل.

يحمل المشروع عنواناً شاعرياً: “نوستالجيا.. مشاعر الماضي”، لكنه يثير أسئلة واقعية أكثر من كونه يحرك عواطف الماضي: أي مستقبل ينتظر المغاربة في ظل هذا “الترف التكنولوجي”؟

بين “الماضي المضيء” و”الحاضر المظلم”

بحسب دفتر التحملات، فإن العرض الذي سيمتد من 25 إلى 28 شتنبر 2025، سيحوّل موقع شالة الأثري إلى مسرح بصري مذهل، تحلق فيه الطائرات لترسم لوحات تحكي قصة المغرب من الموريين إلى الرومان والمرينيين.. 12 دقيقة من الضوء مرتين كل ليلة، بإيقاع موسيقى تصويرية وصوت مفسّر، معززة بأشعة ليزر ومؤثرات درامية، تجعل المشاهد يعيش تجربة استثنائية.

لكن خلف هذه “الفرجة الضوئية”، يطفو سؤال قاسٍ: هل يحتاج التراث المغربي فعلاً إلى 800 درون كي يُقرأ، بينما ملايين المواطنين عاجزون عن شراء تذكرة قطار أو عن دفع فاتورة الماء والكهرباء بل و عاجزون عن دفع تكاليف دواء للعلاج ؟

فاتورة “البهجة” في زمن الأزمة

وفق الوزارة، يهدف المشروع، إلى “تعزيز جاذبية التراث وتشجيع السياحة الثقافية”.. حيث ستصرف 4.3 مليون درهم على تجهيزات تقنية، و تراخيص طيران، و مؤثرات صوتية وضوئية، علاوة على 10 مضيفات لمسح رموز الدخول، و10 عناصر أمن بزي رسمي لحراسة السماء من أي “اختراق أرضي”!، في وقت تشير فيه أرقام وزارة السياحة إلى أن نسبة الزوار الذين يقصدون المواقع الأثرية لا تتجاوز 2% من إجمالي السياح الوافدين (2023). فهل يكفي 12 دقيقة من الألعاب الضوئية لتغيير معادلة بهذا الحجم؟

لكن لو أُعيد توجيه المبلغ ذاته إلى ترميم مدرسة آيلة للسقوط أو مستشفى بلا تجهيزات، ألن يكون الاستثمار أكثر “بهجة” في عيون المواطنين؟ خصوصاً وأن تقارير رسمية تكشف أن أكثر من 60% من المؤسسات التعليمية بالعالم القروي تفتقر إلى المرافق الصحية، وأن نصف المستشفيات الإقليمية تعمل بنصف طاقتها الاستيعابية.

من “الخبز” إلى “الدرون”.. أولويات مقلوبة

المفارقة الموجعة أن نفس الحكومة التي تتحدث عن “شد الحزام” و”ترشيد النفقات” و”الضغط على ميزانية الدعم”، تفتح خزانة الدولة لتمويل عروض لا تدوم أكثر من أربع ليالٍ، ليبدو الأمر أشبه بإشعال الألعاب النارية فوق بيت يتسرب منه الماء؛ صورة جميلة من بعيد، لكنها لا تطفئ العطش ولا تسد الجوع.

التاريخ لا يُكتب في السماء وحدها

صحيح أن اختيار شالة الأثري يحمل رمزية قوية، خصوصاً بعد الاكتشافات الحديثة التي أماطت اللثام عن الحي المينائي القديم و”الحمام العمومي” من القرن الثاني الميلادي، غير أن حماية هذا الإرث لا تتطلب طائرات درون بقدر ما تحتاج إلى إرادة سياسية لوقف الزحف الإسمنتي الذي يلتهم المواقع الأثرية، وإلى ميزانية ثابتة للبحث العلمي في علم الآثار الذي يعاني من التهميش.

بين “الاستعراض” و”الاستثمار”

اختارت الوزارة أن تحلّق بطائرات “الدرون” في السماء، بينما المواطن ينتظر إصلاح ما هو على الأرض.. وبين “نوستالجيا الماضي” و”دراما الحاضر”، يظل المستقبل معلقاً بين من يرى الثقافة استثماراً في الضوء، ومن يراها إنارةً لعتمة الواقع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى