الرئسيةثقافة وفنوندابا tv

كاتبة مصرية تكتب: عبد السلام عامر، نابغة الموسيقى المغربية+فيديوهات

بقلم الكاتبة المصرية مروة صلاح متولي

كل أمة مميزات ودروب من الفن تبرع فيها وتبلغ ذراها، والموسيقى وألوان الغناء مما يمتاز به المغاربة، ولديهم من أنواعها ما يتفردون به ولا يوجد لدى سواهم، ويغلب على هذه الفنون الجمال والإتقان والنظام المنضبط، وبين كنوز المغرب الفنية يلمع اسم الموسيقار الراحل عبد السلام عامر، كجوهرة ثمينة نادرة، هو لحن خالد لا يزال يتردد في وجدان المغاربة، وحلم موسيقي جميل رحل مبكراً كالعديد من العباقرة في تاريخ الموسيقى. ولد عبد السلام عامر عام 1939 وتوفي عام 1979، وهو ابن مدينة القصر الكبير في شمال المغرب، فقد بصره وهو لا يزال في عامه الثاني، وفي المغرب يسمون من حرم نعمة البصر «بصيراً».

مثل سيد درويش ومحمد عبد الوهاب والكثيرين من الأفذاذ في عالم الموسيقى والفن والأدب، كانت بداية عبد السلام عامر في كنف القرآن الكريم، وانتظم في الكُتاب منذ طفولته المبكرة، حيث يحظى الأطفال، بالإضافة إلى تنمية الجانب الديني والروحاني، بتذوق اللغة العربية وضبطها نطقاً وسماعاً، والتتبع السليم لإيقاع اللغة وميزانها، وإثراء المخيلة وتعميقها بشكل كبير.

أوتي الأذن الماهرة والذاكرة القوية

كان عامر الطفل يحفظ ويردد، وظهرت موهبته وقدرته على الحفظ السريع بمجرد السماع، تلك القدرة التي تفوق أقرانه من المبصرين، فقد أوتي الأذن الماهرة والذاكرة القوية. بعد ذلك تلقى تعليمه في المدارس والجامعات المغربية، وكان يجيد اللغة الإسبانية، وقد تربت أسماعه أيضاً منذ البداية على المدائح النبوية والأناشيد الصوفية، والتراث والفولكلور المغربي، وللشمال فنونه الخاصة، كما لكل منطقة من مناطق المغرب، التي كان يستمع إليها عامر بكل تأكيد، وأخذ يختزن موسيقى بلاده في وجدانه، إلى أن تفجرت موهبته الإبداعية وانطلقت موسيقى جديدة تضيء سماء المغرب، موهبة فطرية قل مثيلها، فذلك الجمال الساحر وتلك الإلهامات الفاتنة، إنما هي في الوقت ذاته بناء محكم ونسيج هارموني معقد دقيق ذو تفاصيل متشابكة.

صنع عبد السلام عامر موسيقى عصره منذ بداية الستينيات

لكل عصر موسيقاه ويجب أن يجد الناس موسيقى وقتهم وألحان حاضرهم، وقد صنع عبد السلام عامر موسيقى عصره منذ بداية الستينيات، وعلى مدى سنوات عطائه الفني.

أدرك عامر أن مرحلة جديدة من الموسيقى المغربية لا بد أن تبدأ، وأدرك كذلك أن وراءه تاريخ طويل من الموسيقى في بلاده يمتد على مساحة واسعة من التنوع والتأثير.

انتبه إلى عصره ودفع بقوة نحو موسيقى مغربية جديدة، لم يقدم الأشكال التراثية أو يستلهمها بشكل مباشر، لا شك سنجد لمحة هنا أو هناك من الموسيقى المغربية في شمال المملكة أو جنوبها، أمازيغية أو أندلسية أو جبلية أو شعبية،

كما لم يلق بنفسه في أحضان الأشكال والقوالب الغربية، وإن اعتمد في بعض أعماله على بعض التقنيات السيمفونية، أو الأوركسترالية.

كذلك لا يمكن القول إنه اتبع النهج المشرقي في التلحين بشكل كامل، لكنه قدّم موسيقى مغربية جديدة عبّرت عن روح عصرها، ووجد النغمة التي تحمل مشاعر المغاربة، وهي امتداد جمالي للموسيقى المغربية، التي عرفت مراحل وفترات كثيرة قديمة ومتنوعة. تلك الموسيقى الخالدة التي ألفها، تحمل عناصر بقائها واستمراريتها وقابليتها للسماع في كل وقت، بل هي كنز لا تزال تكتشف جواهره، وتعد الآن وسوف تظل من كلاسيكيات الموسيقى المغربية رغم حداثتها النسبية في عمر الفن المغربي الطويل.

الموهبة النادرة وحوادث الأقدار

كان سوء الحظ يطارد عبد السلام عامر من حين إلى آخر، ولعل الضربة الكبرى التي تلقاها كانت في العاشر من شهر يوليوز عام 1971، اليوم الذي يؤرخ لمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في المغرب، المعروفة باسم انقلاب الصخيرات.

في ذلك اليوم كان عامر مع عبد الحليم حافظ في إذاعة الرباط، عندما هاجم الانقلابيون الإذاعة، وأرهبوا جميع من فيها وبحثوا عمن يتلو بيان انقلابهم، ولا نعلم لماذا لم يقرأه أحد رجالهم. في البداية طلبوا من عبد الحليم حافظ أن يقوم هو بقراءة البيان، لكنه تملص منهم بالحيلة، وأقنعهم بأنه ليس من اللائق أن يقرأ مصري بيان انقلاب عسكري في المغرب، ولا تخفى علاقة عبد الحليم حافظ بالمغرب، وزياراته الدورية المتكررة التي كان يقوم بها إلى هناك، وكذلك علاقته بالحسن الثاني الذي قربه إليه وفتح له أبواب القصر الملكي، وأحاطه بالرعاية في أوقات كثيرة.

ومن غرائب الأمور أن عبد الحليم حافظ استطاع أن يكون مقرباً من الناصرية والملكية في آن واحد، فكان في مصر رمزاً من أكبر رموز الناصرية، وصوتها الأول الذي يتغنى بأمجادها، ويبث أفكارها، ويعيدها على أسماع الشعب في كل حين ليرسخها في الأذهان ولا يدع مجالاً لسواها.

بينما كان في المغرب يعيش في وئام تام مع الملكية، التي تسمى بالرجعية في القاموس الناصري، والتي ترفضها الناصرية، وربما تسعى لإسقاطها أو لا تشجع وجودها على أقل تقدير. كان عبد الحليم حافظ يغني للملكية وللملك الراحل الحسن الثاني في المغرب، كما يغني للناصرية والرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مصر، وقد ترك عبد الحليم مجموعة كبيرة من الأغنيات الجميلة التي تمجد المغرب والحسن الثاني، منها على سبيل المثال «عشت يا الحسن»، «الماء والخضرة والوجه الحسن»، «آدي المغرب في عهد الحسن»، وغيرها من الأغنيات الجميلة.

رفض عبد الحليم إذن أن يقرأ بيان الانقلاب العسكري بصوته الجميل على أسماع المغاربة، فأمسك الانقلابيون بعبد السلام عامر ولم يفلتوه، ولما كان كفيفاً لا يستطيع أن يطالع الأوراق، حفّظوه البيان وأجبروه على تلاوته.

ولحسن حظ الشعب المغربي تم إحباط الانقلاب وإلقاء القبض على الانقلابيين، لكن لسوء حظ عبد السلام عامر أن الأمر كان جللاً، ولم يكن من السهل التسامح معه، حيث أحاطت الريبة بكل شيء وطالت الشكوك الجميع.

يقال إنه تم حبس عامر لبعض الوقت، ثم تدخل شقيق الحسن الثاني الأمير مولاي عبد الله من أجل استصدار العفو عنه وإطلاق سراحه، وهو ما تم بالفعل لكن ربما مع بقايا غضب وقليل من الحظر أو الحذر، وربما لم يكن هناك شيئاً من ذلك، وإنما صار الاسم ذاته مصدراً لقلق وخوف وتوجس بعض المسؤولين، وربما اتفق الجميع دونما اتفاق على أن يسدلوا الستار مؤقتاً على هذا الاسم. لكن تتبع المسيرة الفنية للموسيقار الراحل، لا يدلنا على ما يقال من أنه انطفأ واختفى تماماً بعد حادثة بيان الانقلاب، أو أنه كان على الهامش، حيث نرى أنه كان في مركز وقلب الأحداث الوطنية تحديداً،

يواكب خطوات الوطن بألحانه الحماسية الرائعة، ويخاطب وجدان المغاربة في لحظاتهم التاريخية، كألحانه للمسيرة الخضراء عام 1975 على سبيل المثال، ومن أعماله الوطنية أغنية «الله أكبر كبروا» وأغنية «الجهاد المقدس». ومن سوء حظ عبد السلام عامر أيضاً أنه كان في مصر عندما وقعت نكسة 1967، فتوقفت رحلته الفنية وغادر إلى المغرب عند أول فرصة أتيحت وسط أجواء بالغة الاضطراب.

العلاقة بالشعر وتلحين القصائد

لم تكن بداية عبد السلام عامر سهلة، وسط عالم فني يدخله جديداً، وكان في ذلك الوقت دون العشرين من عمره، فتعرض للرفض من بعض الإذاعات، وانتقل بين أكثر من مدينة من المدن المغربية، إلى أن انطلقت أولى أغنياته عبر الأثير، ويقال إنها كانت أغنية «ما بان خيال حبيبي» التي لحنها وكتب كلماتها وغناها بصوته، ثم بدأت أعماله تتوالى وتفرض موهبته نفسها على الجميع، كموهبة لا تنكر وعبقرية لا تجحد. وفي عصره الذي كان كريماً يجود بالمواهب الفذة، التقى عامر بالشاعر المغربي عبد الرفيع الجواهري، وبالقمم الثلاث الشاهقة في الغناء المغربي، عبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني وعبد الوهاب الدكالي، وكان كل هؤلاء في بدايات العشرينيات من أعمارهم على الأرجح، وعلى الرغم من أن عبد الوهاب الدكالي يلحن الغالبية العظمى من أعماله بنفسه، إلا أنه غنى من ألحان عبد السلام عامر أغنية «حبيبتي»، وأغنية «آخر آه».

وآنذاك كان المغرب بلد الملحون والتراث الهائل من القصائد وفنون الموسيقى والغناء، يكتب شعره الجديد ويؤلف موسيقاه المعاصرة ويشدو طرباً أصيلاً بروح العصر.

في عام 1962 بزغ نور «القمر الأحمر»، تلك القطعة الفنية الخالدة التي اجتمع على إبداعها الثلاثي الباهر، الشاعر عبد الرفيع الجواهري والموسيقار عبد السلام عامر والمطرب عبد الهادي بلخياط، وكان عامر في الثالثة والعشرين من عمره، عندما قام بتلحين هذا العمل الجبار، الذي عندما استمع إليه محمد عبد الوهاب أبى أن يغادر مكتبته الموسيقية، وضمه إلى ما يحرص على الاحتفاظ به.

القمر الأحمر لحظة إبداعية نادرة لا تتكرر كثيراً، اتفق فيها بلوغ ذروة التعبير الفني شعراً ولحناً وغناء، وفي هذه الأغنية أو القصيدة المغناة، تتجلى ملامح عبقرية عامر الموسيقية، وقدرته على الوصف بالنغم وتلحين قصيدة تتناول بعضاً من جمال الطبيعة في المغرب، ونهر أبي رقراق الذي يجري منساباً في الرباط. وصف الشاعر ما رآه وعبر بالكلمات عن رؤيته لهذا الجمال وانطباعاته الخاصة، وغنى المطرب بإحساسه الخاص بهذا الجمال الذي رآه أيضاً، أما عامر الذي لم ير نهر أبي رقراق في حياته، ولم ينظر إلى القمر في يوم من الأيام، نجد أن لحنه احتوى على عناصر بصرية إلى جانب العناصر السماعية الأساسية، فهناك إلى جانب تلحين المقاطع الشعرية، التأملات الموسيقية البحتة المتمثلة في الفواصل والمقدمة، هي من وحي القصيدة بطبيعة الحال، لكنها تنفرد بالتعبير الخاص والتحرر من موسيقى الكلمات وإيقاعاتها وكذلك أخيلتها.

يمكن القول، إن القمر الأحمر نموذج للشكل المكتمل لما يجب أن يكون عليه تلحين القصيدة العربية، كما أنها من الأعمال التي تتحول إلى مشكلة فنية لمبدعها وللآخرين أيضاً، حيث وضع هذا اللحن بعيداً عالياً فوق القمر، وكان ولا يزال مثالاً سامياً من الصعب تجاوزه حتى من عبد السلام عامر نفسه، لكن هل نفى جمال لحن القمر الأحمر غيره من الألحان، بالطبع لا، لكنه احتفظ لنفسه بمكانة خاصة متفردة.

كان عبد السلام عامر مغرماً بالشعر، يبحث عن القصيدة دائماً، ويسعى لاختيار ما يلحنه ويقدمه للسامع، وأراد أن تمتزج موسيقاه بالروائع المختارة من القصائد العربية، وكما التقت ألحان محمد عبد الوهاب بأشعار أحمد شوقي منذ العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي في مصر، التقت بعد ذلك بعقود ألحان عبد السلام عامر بأشعار عبد الرفيع الجواهري في المغرب.

عندما يلتقي النغم بالشعر تكون الموسيقى مضاعفة حيث يضيفها كل منهما إلى الآخر، وقد كان عامر ضليعاً في تلحين القصيدة، يتفاعل مع النص الشعري بوعي راق وحساسية بالغة، يعبر عن أخيلتها وصورها البلاغية، وحالاتها الشعورية والوجدانية.

لم يكن يلوي عنق القصيدة ويتصارع معها من أجل أن يلحنها، ولم يكن يعبث بأوزانها وإيقاعاتها، بل كان يحترم موسيقاها الداخلية ويبرزها، ويظهر جمالياتها على أفضل وجه، ويذهب بها نحو آفاق أرحب. لحّن عامر مجموعة كبيرة من قصائد عبد الرفيع الجواهري، كالقمر الأحمر وراحلة وميعاد، وقصة الأشواق، وغيرها من القصائد، كما لحن مجموعة من القصائد لشعراء مصريين، كالشاعر أحمد رامي الذي لحن من أعماله قصيدة «أرادوني» التي غناها محمد الحياني، ومن قصائد فاروق شوشة لحن قصيدة «واحة العمر» وقصيدة «سمعت عينيك» وقد غناهما عبد الهادي بلخياط.

كان عامر يحترم الجمهور ويضعه في مكانة عالية، فلا يقدم إليه إلا ما هو رفيع وراق وممتع، ويساعد العامة على السمو الجمالي والتذوق العميق للألحان الرصينة، وعندما نستمع إليه في حواراته القليلة المتاحة، نجده يتحدث بلسان طلق وأسلوب أدبي جميل، ونجد أنفسنا أمام فنان مثقف، بل رفيع الثقافة شديد الرقي، يتكلم في وقار وجدية مع ابتسامة وبشاشة لا تنقص منهما، بل تزيده قرباً إلى الجمهور، وتكشف عن روحه الطيبة التي تنبع منها ألحانه.

التعبير وخلق المعنى الموسيقي

تميل موسيقى عبد السلام عامر إلى التعبير بدرجة كبيرة، وتعتني بالجماليات والزخارف والتنميق، لكنها تضع المعنى في المقام الأول، أو تسخّر كل ذلك من أجل وضوح الفكرة الموسيقية، والتعبير لديه قد يكون مطابقاً للكلمة الملحنة، وقد يكون مناقضاً لها عمداً من أجل خلق تأثير نفسي معين، كما في قصيدة «سمعت عينيك» عندما يغني بلخياط: «سمعت عينيك وما قالتاه.. سمعت كل الهمس خلف الجفون»، نجد تصاعداً موسيقياً عند «كل الهمس» على العكس من الهدوء المفترض والنغم الحالم المتوقع هنا، لكن جاء الارتفاع الموسيقي ليدل على عظم هذا الهمس وما في داخله من أسرار.

وفي قصيدة «أرادوني» عندما يغني الحياني: «أرادوني على أني أبوح.. وهل يتكلم القلب الجريح.. وماذا يبتغون وفي فؤادي جوى.. أفضى به الدمع الفصيح»، بعدها تنطلق الموسيقى وتندفع لتبوح وتفرغ شحنات شعورية تسبق ما سيأتي من كلمات.

تتميز موسيقى عبد السلام عامر بقوة التركيب النغمي وبالنبرة الموسيقية المتفردة والبلاغة الطاغية، ونجد عنده ذلك التوازن بين دور الموسيقى في تنغيم الكلمة والتعبير عنها، وصوت الموسيقى البحتة وتعبيرها الخاص، وقد تميزت مقدماته الموسيقية للأغنيات عامة وللقصائد بشكل خاص بالجمال الفائق، وكانت تمهيداً وجدانياً يدخل السامع في حالة شعورية تهيئه للسماع العميق.

كما كان يوظف التكرار كجمالية من جماليات الموسيقى، لا لملء الوقت وتعويض النقص الإبداعي، وكان يوظف المقامات العربية والإيقاعات والموازين المغربية للتعبير عن أعمق الأحاسيس ولخلق جماليات مبتكرة،

كما يلاحظ لديه انسيابية الفكرة اللحنية، والترجمة الموسيقية الدقيقة للمعاني والصور الشعرية، وبراعة التلوين وتكثيف النغم، وقدرته على أن ينتج فناً يتذوقه الجميع رغم رصانته وتعقيده الفني، لذلك ظل حياً في قلوب المغاربة يذكرونه بفخر وحنين، وظل كذلك حياً في ذاكرة الموسيقى العربية.

المصدر: القدس العربي

اقرأ أيضا…

الرئيسية | دابا بريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى