الرئسيةرأي/ كرونيك

نحن ولوموند: انفعال ضروري؟

أثارت سلسلة المقالات التي نشرتها جريدة “لوموند” الفرنسية مؤخرًا حول المغرب موجة واسعة من ردود الفعل الغاضبة والاستنكارات المتكررة داخل المجتمع المغربي ونخبه السياسية والإعلامية.

وبعيدا عن مضمون المقالات المنشورة والتي تفتقر إلى عنصري “الجدَة والدقة” الذين يتطلبهما الخبر الصحفي فما بالك بجنس التحقيق.

يهمني تفسير حالة الغضب التي تسم رد الفعل لجزء من المجتمع المغربي ونخبه السياسية والإعلامية، وأطرح السؤال: لماذا تتحول بعض الردود على النقد الإعلامي الخارجي إلى موجة انفعال جماعي، رغم أن الدولة تعتمد سياسات قانونية ودبلوماسية لحماية صورتها؟

ملكية تدافع عن نفسها

في البداية لا بد من تسجيل أن المؤسسة الملكية ليست في حاجة إلى من يتحدث باسمها في مثل هذه الحالات، فهي تتوفر على ديوان ملكي ومؤسسات رسمية قادرة على الرد مباشرة (إن قدّرت أن الأمر يستحق) عبر بلاغات توضيحية، أو من خلال المتابعة القضائية في حال تجاوز الأمر حدود النقد المشروع إلى التشهير أو الابتزاز.

وقد اتبعت الدولة هذا النهج في أكثر من مناسبة، سواء في عهد الملك الراحل الحسن الثاني أو الملك محمد السادس، مفضلة ضبط النفس والاعتماد على المساطر القانونية والدبلوماسية بدل الانفعال الشعبي.

تجلى هذا النهج في عدة قضايا بارزة: في عام 1997، رفع الملك الحسن الثاني دعوى قضائية ضد جريدة «لوموند» الفرنسية، وانتهت بإدانتها وتغريمها رمزياً لصالح الملك.

وفي 2015، شهدت قضية ابتزاز الصحافيين الفرنسيين إيريك لوران وكاترين غراسييه رفع المملكة دعوى أمام القضاء الفرنسي بعد ضبطهما في حالة تلبس بمحاولة ابتزاز القصر مقابل عدم نشر كتاب مسيء للملك، واستمر الملف سنوات في المحاكم الفرنسية.

وفي 2021، رفعت الدولة دعاوى قضائية ضد وسائل إعلام ومنظمات مثل «لوموند» وForbidden Stories على خلفية اتهام المغرب باستخدام برنامج التجسس الإسرائيلي “بيغاسوس”. كما لجأت الدولة أحيانًا إلى إجراءات إدارية، مثل منع توزيع أعداد من الصحف الأجنبية، كما حصل مع صحيفة «إل باييس» الإسبانية عام 2012، حين منع دخول عدد تضمن صورة كاريكاتورية اعتُبرت مسيئة للملك.

الانفعال الشعبي: من الوطنية إلى الشعبوية

ظاهريا تبدو الردود التي ينتجها أفراد المجتمع، تعبيرًا وطنيًا مشروعًا عن رفض أي مساس بصورة البلاد أو بمؤسساتها، وفي العمق تكشف عن دينامية جماعية أعمق تتجاوز مجرد استياء وغضب شعبي، إنما لحظة يُعاد فيها بناء الهوية الوطنية عبر خطاب “نحن” في مواجهة “هم”، حيث تتحرك العاطفة في قلب التفاعل مع النقد الخارجي.

فالمجتمع، حين يتعرض لخطاب خارجي يستشعر به مسّا بصورة الوطن، يستحضر آليات دفاع جماعية هدفها تثبيت الانتماء والتأكيد على وحدة الصف.

لكن هذه الدينامية، التي تنطلق من منطلق وطني مشروع، سرعان ما تنزلق إلى خطاب شعبوي انفعالي تغلب عليه العاطفة على حساب العقلانية، وعوض أن تكون الوطنية قوة توحيد وعامل تماسك، تتحول إلى أداء جماعي متشنج يرتكز على رفع الشعارات وإثارة الحماس وحشد التعاطف الداخلي، عوض إنتاج خطاب مضاد رصين وبأدوات وقنوات ملائمة، ومناسبة مع حجم الفعل/ النقد، والحال هنا أن مقالات “لوموند” الأخيرة وبالرغم من تاريخ الاستهداف للمغرب من قِبل هذه الصحيفة، إلا أنها لا ترقى في تقديري الخاص لمستوى استدعاء الوطنية ك “رأسمال رمزي”: وكان كافيا االرد على مقالات صحفية بمقالات صحفية مضادة.

وهكذا، بدل أن تتحول موجة الاستنكار إلى قوة معنوية تعزز صورة المغرب، قد تعطي انطباعًا عكسيًا، مفاده أن الدولة والمجتمع يعيشان حالة توتر دائم أمام أي نقد خارجي.

الخطورة في مثل هذا الانزلاق وهذا الضجيج الرمزي الذي تحدثه النخب المحلية، أنه يقوّض الجهد الرسمي الذي يُبنى على الهدوء والاعتماد على المؤسسات القانونية والدبلوماسية الذي تحاول الدولة تكريسه والصورة التي تريد تسويقها، لتعزيز علاقاتها الدولية.

ولعل هذا بالضبط ما جعل سلوك الدولة الرسمي أقرب إلى “التجاهل” مستحضرا مكاسب تجنيها الرباط في هذه المرحلة، وتتجسّد ذروته في الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء.

فبينما تختار الدولة ضبط النفس والتعاطي الاستراتيجي أو حتى التجاهل وفق السياقات، يظهر خطاب شعبي يطغى عليه الانفعال، ويعيد إنتاج ما يسميه عبد الله حمودي منطق “الشيخ والمريد”، حيث يتم تعبئة الجماهير عبر العاطفة أكثر من الحجة العقلانية.

وبالتالي نرسل إلى الخارج صورة دولة هشة لا تحتمل النقد، بدل أن تظهر كقوة واثقة بنفسها قادرة على إدارة صورتها بوعي ومسؤولية، وما نعتقد أنه يعزز الانتماء داخليا قد يتحول إلى عبء يُضعف صورة الدولة على المستوى الدولي.

وحين أسجل هذه الأفكار، فلا أدعو إلى كبت المشاعر الوطنية أو إسكات ردود الفعل الشعبية، إذ من الطبيعي أن يرفض المواطنون ما يعتبرونه إساءة، وإنما المطلوب على الأقل من النخبة المحلية التي تلعب غالبا دور “المهيِّج” في مثل هاته الحالات، أن تتحول إلى وظيفة التوجيه والترشيد، وإنتاج خطاب مضاد قادر على مواجهة الخطاب الخارجي ويناسب مستواه، لا يقل ولا يزيد من حجمه، حتى لا يربكوا هيبة الدولة وشرعيتها الدولية من حيث أرادوا دعمها.

ملاحظة ذات علاقة

من أبرز أدوات ترشيد ردود الفعل وإنتاج خطاب مضاد عقلاني، هو تطوير مجتمع معتاد على النقاش العمومي الحر والمتعدد القضايا، دون قيود مسبقة أو حسابات ضيقة، وهذا لن يتأتى إلى بصحافة حرة ومستقلة، فحين يصبح النقاش الداخلي مفتوحًا ومتسامحًا مع تعددية الآراء، تتحول أي موجة نقد خارجي إلى جزء من الحوار الطبيعي، بدل أن تتحول إلى مصدر انفعال جماعي أو أزمة رمزية.

وبدل لعن ظلام لوموند، فلنوقظ شمعة صحافة محلية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى