
تحرير: جيهان مشكور
تتحدث الحكومة والمندوبية السامية للتخطيط بلغة مليئة بالتفاؤل، تنشر نسباً ومعدلات.. تتغنى بتحقيق نمو اقتصادي يقارب 4%، وتبشر بانخفاض الفقر متعدد الأبعاد من 11.9% سنة 2014 إلى 6.8% في سنة 2024، أي أن أكثر من مليون ونصف مغربي خرجوا من خانة الفقر الإحصائي، كما و تستعرض الحكومة أرقاماً ضخمة حول الدعم الاجتماعي المباشر الذي بلغ 40.5 مليار درهم منذ انطلاقه، و تسوق لمشاريع كبرى من قبيل استضافة كأس العالم 2030، معتبرة أن تخصيص ما يقارب 1500 مليار درهم لهذا الحدث لا يعد تبذيراً، بل استثماراً في صورة المغرب.
لكن هذه الصورة الرسمية المبهرة سرعان ما تنكسر على صخرة واقع يومي يزداد قسوة، واقع يقول إن المغرب الذي ينتج 7800 طن من الفضة سنوياً يستخرجها من جهة درعة تفيلالت، أي ما يعادل 95% من إنتاج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لا يملك في نفس الجهة مستشفى جامعياً واحداً، ولا جامعة، ولا طريقاً سياراً، وكأن الثروة المعدنية تخرج من الأرض لتسافر مباشرة إلى الأسواق العالمية دون أن تترك أثراً تنموياً في موطنها الأصلي.
بين الملايير المهدورة والمواطن المحروم
تكشف الأرقام الحكومية عن إنفاقات ضخمة: 1300 مليار سنتيم دُفعت كمنحة استثنائية لما يُعرف بـ”الفراقشية” بمناسبة عيد أضحى مُلغى، بينما في الضفة الأخرى تُسحب 500 درهم من أسرة فقيرة فقط لأنها لم تستطع إدخال فاتورة الكهرباء أو الماء في منصة رقمية أو لأنها صرحت من استفادتها من عرض نجمة 6 فهي تجاوزت المؤشر…
المفارقة هنا صارخة: كرم مبالغ فيه في اتجاه واحد، وقسوة بيروقراطية في اتجاه آخر يطحن الفئات الهشة.
المشهد يتكرر عند المقارنة بين الملاعب والمستشفيات: ملعب يُبنى في ظرف 22 شهراً بكلفة 200 مليار سنتيم، في حين تُمنح لمواطنة فقيرة موعداً لإجراء فحص بالسكانير بعد عام وثمانية أشهر أو عامين و احيان أكثر ، أي أن جسدها ينتظر الموت بينما الإسمنت يركض بسرعة قياسية.
استثمارات كبرى بلا اثر اجتماعي يذكر
و فيما تفاخر الحكومة بعقود ضخمة في مجال الدفاع والتسلح: شراء قمرين صناعيين بـ500 مليار سنتيم، وطائرات نقل عسكرية بـ600 مليار سنتيم، وصفقات بمليارات الدولارات مع الولايات المتحدة وفرنسا.. نصدم بواقع حكومة تطلب المساعدات حين يتعلق الأمر بالصحة، لنرى المغرب يمد يده لقطر من أجل بناء مستشفى جامعي في طنجة.. إنها مفارقة تختصر عقلية الأولويات: ملايين للعتاد العسكري، وفتات لتأمين الحق في العلاج.
اما في مجال الفلاحة، فالمغرب يصدر 5 ملايين طن من الأسمدة الفوسفاتية سنوياً نحو إفريقيا مجانا على شكل معاوانات، لكنه يترك 1.3 مليون فلاح حبوب يعيشون تحت رحمة الجفاف والسماء.. وتحت لواء المخطط الأخضر تحول المغرب الى حدقة خلفية لأوروبا و دول الخارج حيث اهتم بالزراعة التصديرية خصوصا التي تخلت عن زراعتها دول أخرى على رأسها إنتاج الأفوكادو، فقد قفز من 1500 طن في موسم 2008/2009 ممطر، إلى 100 ألف طن في سنوات الجفاف الأخيرة، وكلها موجهة للتصدير، فيما يظل السوق الداخلي عاجزاً عن توفير الخبز والدقيق بأسعار مقبولة للمواطن.
تناقضات سوق الشغل والريع السياسي
على صعيد آخر ،و بينما تروج الحكومة لأرقام الدعم الموجه للشباب، نجد حالات صارخة للتمييز.. هشام الكروج، العداء السابق، موظف كإطار عالٍ في وزارة الشباب براتب سمين دون أن يضع قدماً واحدة في مقرها، في حين يُقصى آلاف الشباب من مباريات التعليم لأنهم تجاوزوا الثلاثين سنة رغم أنهم استنزفوا جيوب أسرهم في سنوات من الدراسة.
وفي نفس الوقت، تكشف الأرقام عن وجود 100 ألف موظف شبح يستنزفون 10 مليارات درهم سنوياً من خزينة الدولة دون أن ينجزوا ساعة عمل واحدة، بينما هناك أكثر من مليوني عاطل لا يجدون حتى مصاريف التنقل لتقديم سيرهم الذاتية. هنا يظهر جلياً أن البطالة ليست قدراً، بل نتيجة مباشرة للريع والفساد الإداري.
مفارقة الأسعار والموارد
يعتبر المغرب عاشر منتج عالمي للسمك وأول مصدر للسردين، ومع ذلك يشتري المواطن المغربي هذا السردين بأسعار أغلى من تلك التي تدفعها دول إفريقية تستورده منا.. وفي بلد يُقال إنه يحقق الاكتفاء الذاتي من الفلاحة والمنتجات البحرية، يجد المواطن نفسه عاجزاً عن شراء كيلوغرام من السمك أو بضع حبات من الخضر دون أن يشعر بثقل الأسعار.
عدالة عرجاء وقوانين قاسية على الضعفاء
المفارقة لا تقف عند الاقتصاد، بل تمتد إلى القضاء.. فقد يحكم على شاب سرق هاتفاً محمولاً بعشر سنوات سجناً نافذاً، بينما من سرق 32 ملياراً من صندوق الضمان الاجتماعي لم يقض يوماً واحداً خلف القضبان.
وزير العدل يقترح خمس سنوات سجناً على من يُبلغ عن الفساد، بينما أحكام شهر أو شهرين فقط تطال من اعتدى على أطفال وهدم حياتهم.. إنها عدالة تُطبَّق بقسوة على الضعفاء وتلين أمام الأقوياء.
التنمية الموهومة والموت بالسموم
و في الوقت الذي تُخصص فيه الحكومة 1500 مليار درهم لاستضافة ثلث المونديال مدة ثلاثين يوماً، لا تزال مستوصفات المغرب عاجزة عن توفير حتى أمصال ضد لسعات العقارب والأفاعي التي يموت بسببها أطفال في القرى كل صيف بل اسوء من ذلك تخيل ان يموت طفل بعد نقله للمستشفى الجهوي بأكادير نظرا لعدم توفر مصل العقارب ليلحق به والده بعد يومين إلى نفس المستشفى نتيجة عضة نفس العقرب حيث لم يجد المصل مجددا و تكون النتيجة موت الاب و الابن..، وبينما تتزين المدن بالملاعب والفنادق، تظل المستشفيات فضاء لانتظار الموت مرة لغياب المصل و مرة لاهتراء الأجهزة و أخرى نتيجة قلة الاطر… تعددت الأسباب و النتيجة واحدة.
أرقام للزينة وواقع يفضح الحقيقة
الصورة واضحة: المغرب يعيش بين واقعين متوازيين لا يلتقيان.. واقع رسمي مزين بالأرقام والنسب والرسوم البيانية، يُعرض في المؤتمرات الدولية ويُسوَّق كدليل على تقدم البلاد، وواقع شعبي يئن تحت وطأة الفقر والبطالة والمرض والحرمان.
بين 7800 طن فضة تُستخرج سنوياً، و1500 مليار درهم مخصصة لمونديال عابر، و40.5 مليار درهم تُصرف على برامج دعم لا تصل إلى مستحقيها، يظل المواطن البسيط هو الحلقة الأضعف، يعيش المفارقة يومياً: دولة غنية بالإحصائيات، فقيرة في العدالة الاجتماعية.
فهل يمكن أن تُقنع هذه الأرقام أماً فقدت طفلها بسبب لسعة عقرب؟ هل تشبع هذه الملايير بطون العاطلين الذين يبحثون عن فرصة؟ هل تشيد هذه الملاعب مستشفى جامعياً في درعة تافيلالت؟ الواقع يجيب بصوت مرتفع: الأرقام وردية، لكن حياة الناس قاتمة، والهوة بينهما تكبر يوماً بعد يوم.