
تحرير: جيهان مشكور
في مشهد يلخص المسافة الشاسعة بين وعود الدولة وواقع المواطن البسيط، قضى العشرات من سكان جماعة بوعروس بإقليم تاونات ليلتهم في العراء قرب قنطرة واد إيناون، بعدما تم توقيف مسيرتهم الاحتجاجية التي كانت متجهة صوب مدينة فاس.. خرجوا حفاة الأمل مثقلين بالوجع، لا طلباً للترف ولا سعياً وراء امتيازات، بل فقط لإيصال صوتهم المبحوح إلى من بيدهم القرار، صوت يصرخ ضد التهميش وضد العيش في ظروف لا تليق بكرامة الإنسان في القرن الواحد والعشرين.
مسيرة توقفت عند القنطرة
سارعت السلطات العمومية، مدعومة بعناصر القوات المساعدة والدرك الملكي، إلى إيقاف المسيرة عند مشارف الجماعة، بدعوى “الحفاظ على النظام العام”.. لكن السؤال الجوهري يظل مطروحاً: أي نظام عام يُخشى عليه من مواطنين بسطاء قرروا أن يسيروا عشرات الكيلومترات مشياً على الأقدام لأنهم لم يجدوا وسيلة أخرى لإسماع معاناتهم؟
احتجاج بملامح الجوع والتهميش
جاء المحتجون من دواوير متعددة، تجمعهم هموم مشتركة: طرق محفرة، مؤسسات تعليمية متهالكة، مراكز صحية بلا أطباء، وشباب يهاجرون نحو المدن أو نحو البحر بحثاً عن أفق أرحب،خيث تكشف أرقام المندوبية السامية للتخطيط أن إقليم تاونات من بين الأقاليم التي تسجل نسباً مرتفعة من الفقر والهشاشة، و تتجاوز نسبة الفقر المتعدد الأبعاد في بعض الجماعات 30%، ومع ذلك، تظل المشاريع التنموية حبيسة الأوراق والخطب الرسمية.
من الشكاوى إلى الأقدام
قبل هذا التحرك، سبق للسكان أن وجهوا شكاوى متعددة، خطابات ومراسلات لم تجد طريقها إلى التنفيذ، وحين سئموا لغة الأوراق والوعود، اختاروا لغة الأقدام: السير نحو فاس، عاصمة الجهة، لعلها تنقل صرختهم إلى من يهمهم الأمر.، لكن حتى هذا الخيار بدا ثقيلاً على الدولة التي فضلت إيقافهم في العراء، حيث أمضوا ليلتهم بين البرد والظلام.
مفارقة مؤلمة
في الوقت الذي تعلن فيه الحكومة عن “النموذج التنموي الجديد” وعن استثمارات ضخمة في الملاعب والبنى التحتية الكبرى، لا يجد سكان بوعروس سوى السير في الطرق الوعرة لإيصال أصواتهم.. أي تنمية هذه التي تنفق الملايير في المدن الكبرى بينما تظل قرى بأكملها بلا ماء صالح للشرب ولا طرق معبدة؟ المفارقة الصارخة أن المغرب، بحسب تقارير رسمية، خصص أكثر من 45 مليار درهم سنوياً لبرامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، لكن يبدو أن نصيب بوعروس لم يصل بعد، أو ضاع في الطريق.
صرخة سياسية واجتماعية
المسيرة المجهضة ليست مجرد حدث عابر، بل مرآة عاكسة لعمق أزمة الثقة بين المواطن والدولة.. فسكان بوعروس لا يطالبون بإسقاط الحكومة ولا بتغيير النظام، بل فقط بمدرسة تحفظ أبناءهم من الأمية، ومستشفى يعالج مرضاهم، وطريق آمن يربطهم بباقي المغرب.. في المقابل، اختارت السلطة أن تواجههم بالمنع بدل الحوار، وكأن صوت الجوع يُقابل بالقمع.
ما وقع قرب قنطرة واد إيناون يختزل قصة المغرب العميق: مواطنون يسيرون أميالاً حفاةً تحت شمس سبتمبر، لأن صبرهم على التهميش نفد، ودولة ترد بمنعهم من تجاوز خط وهمي نحو المدينة، إنها مواجهة غير متكافئة: فقراء بلا سند يرفعون مطلب “العيش الكريم”، ودولة ترفع شعار “النموذج التنموي” لكنها تتعثر في أبسط اختبار على أرض الواقع.