
لم تكن الزيارة التي قام بها الوفد القطري لمستشفى عائشة بآسفي، يوم أمس الأربعاء، مجرد جولة بروتوكولية، فقد تحولت إلى مشهد صادم يختزل مأساة المنظومة الصحية في المغرب.. فوراء جدران بناية حديثة وتجهيزات طبية متطورة، واجه الضيوف حقيقة مرة: فشل إداري وتدبيري جعل من هذا الصرح الممول بملايين الريالات القطرية نموذجاً مصغراً لسياسة صحية تبني الحجر وتنسى البشر.
استثمار سخي بلا روح بشرية
بُني المستشفى إطار شراكة واضحة: قطر تموّل ووزارة الصحة المغربية توفر الأطر البشرية والتسيير، و كان يُنتظر منه أن يشكل إضافة نوعية لساكنة آسفي التي تعاني منذ سنوات من ضعف الخدمات الصحية.. لكن الواقع جاء مغايراً؛ أجهزة للرنين المغناطيسي ومختبرات بيولوجية و مُعدّات متطورة مهددة اليوم بالصدأ بسبب غياب اليد المؤهلة لتشغيلها، و ملايين الدولارات تحولت إلى ديكور فاخر في مدينة لا يزال سكانها يقطعون مئات الكيلومترات نحو مراكش أو الدار البيضاء بحثاً عن علاج كان من المفترض أن يكون قريباً.
أزمة تمتد من آسفي إلى المغرب كله
المشهد الذي أثار دهشة الوفد القطري ليس استثناءً، بل انعكاس لأزمة وطنية هيكلية، فبحسب أرقام وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، يعاني المغرب خصاصاً يفوق 32 ألف طبيب و65 ألف ممرض وتقني صحة، و في وقت توصي منظمة الصحة العالمية بوجود طبيب واحد لكل 650 مواطناً، بينما لا يتجاوز المعدل في المغرب طبيباً واحداً لكل 1700 مواطن، تفسر هذه الهوة كيف أن مستشفى مجهز بأحدث التقنيات يمكن أن يتحول إلى “متحف طبي” بدل أن يكون منقذاً للأرواح.
التنمية المغشوشة… بين التمويل الخارجي و الهدر الداخلي
ما وقع في آسفي يطرح سؤالاً عميقاً: ما قيمة الاستثمار في الحجر إذا كان غياب البشر يحول الصرح إلى بناية بلا روح؟ إنها تنمية مغشوشة، تبني جدراناً عالية لكنها تترك المواطنين أسرى الهشاشة الصحية.. وبدل أن يكون مستشفى عائشة عنواناً لشراكة عربية ناجحة، تحول إلى مرآة تعكس عجز الإدارة المغربية عن الوفاء بالتزاماتها، حتى أمام شركاء أجانب.
هدر للموارد وفضيحة أخلاقية
الأمر لا يتوقف عند سوء تدبير تقني، بل يمتد إلى هدر حقيقي للموارد العامة.. ففي بلد تعترف المندوبية السامية للتخطيط بأن أكثر من 12% من الأسر المغربية تواجه صعوبة في الولوج للعلاج، يصبح ترك أجهزة طبية باهظة الثمن مركونة في زوايا المستشفى جريمة سياسية وأخلاقية.. إنها ليست مجرد خسارة مالية، بل ضياع لفرصة حقيقية كان يمكن أن تخفف من معاناة آلاف المرضى، و تهديد لمصداقية الشركات المستقبلية.
من يجرؤ على المحاسبة؟
السؤال اليوم لم يعد يتعلق بالمبنى أو التجهيزات، بل بالمسؤولية: من سيحاسب على هذا الهدر؟ من سيقف أمام المرضى ليشرح لهم أن مستشفاهم الجديد لا يختلف عن سابقه إلا في الطلاء والرخام؟ أم أن الأمر سينتهي كالعادة في تقارير توضع في الرفوف، بينما تستمر دورة الفشل في ابتلاع المزيد من الاستثمارات والوعود؟
المواطن الضحية الدائمة
ما كشفته زيارة الوفد القطري هو أن المواطن المغربي يظل الحلقة الأضعف،يظل رهينة سياسات مرتبكة ووعود لم تترجم على أرض الواقع.. فالمرضى يظلون يتنقلون بين المدن كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، في رحلة تبدأ بطابور انتظار طويل وقد لا تنتهي إلا بخيبة أمل أو معاناة إضافية.
مستشفى عائشة لم يكن مجرد مشروع صحي، بل كان فرصة لترميم ثقة المواطن في مؤسساته وتعزيز التعاون العربي في مجال حيوي. غير أن البيروقراطية والإهمال حوّلاه إلى شهادة حيّة على مأساة وطنية: مشاريع على الورق، إنجازات للتسويق، وواقع صحي يئن تحت وطأة العجز البنيوي. وفي النهاية، يظل السؤال مفتوحاً: متى يدرك صانع القرار أن بناء الجدران وحده لا ينقذ الأرواح، وأن التنمية تبدأ من الإنسان قبل التجهيزات وواجهات هي محض بنايات؟