
الذباب الإلكتروني: معركة الوعي في مواجهة زمن التضليل الرقمي
تحرير: جيهان مشكور
في زمن تراجعت فيه قوة الحقيقة أمام سطوة الأكاذيب، لم يعد الرأي العام يُصاغ بالمعطيات الموثوقة وحدها، بل أضحى رهيناً بقدرة أطراف عديدة على التحكم في الوعي الجماعي من خلال تقنيات رقمية متطورة وحملات تضليل منظمة، ومع اتساع رقعة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ظهر الذباب الإلكتروني كأحد أخطر الظواهر التي تهدد النقاش العمومي وتشوّه صورة الواقع.
الفضاء الرقمي بين الوعد والخذلان
حين انطلقت وسائل التواصل، كانت الوعود كبيرة بفتح آفاق الحرية والتعبير، وبناء فضاء يتفاعل فيه الأفراد بعيداً عن قيود السلطة التقليدية، غير أن هذه الآمال سرعان ما اصطدمت بواقع آخر، حيث تحوّل الفضاء الرقمي إلى أداة في يد من يملكون النفوذ المالي والسياسي لتوجيه الرأي العام.. فقد أظهرت تقارير دولية عديدة، بينها تقرير صادر عن معهد أكسفورد للإنترنت، أن أكثر من سبعين دولة عبر العالم استخدمت فرقاً إلكترونية منظمة للتأثير على النقاشات العامة، مما يكشف أن الذباب الإلكتروني ليس مجرد انحراف فردي بل صناعة ممنهجة.
الذباب الإلكتروني كمنظومة
لا يقتصر الحديث عن الذباب الإلكتروني على حسابات مجهولة تتطفل على النقاشات، بل يتعلق بمنظومة كاملة تضم حسابات وهمية وروبوتات برمجية وأشخاصاً مأجورين يعملون ضمن هياكل منظمة..
هذه المنظومة لا تشتغل بشكل عشوائي، بل تخضع لاستراتيجيات مدروسة تحدد أهدافها وتوقيت تدخلاتها وطبيعة الرسائل التي تروج لها، وقد كشفت دراسات عديدة أن هذه الحسابات تركز على ثلاثة محاور أساسية: إغراق النقاش العام برسائل متكررة لإضعاف النقاش الحقيقي، تشويه سمعة الأصوات المعارضة عبر حملات سب وقذف منظمة، وصناعة روايات بديلة تزيّف الحقائق وتحل محلها في الوعي الجمعي.
صناعة الوهم وسط زحام الأكاذيب
المعضلة الكبرى ليست فقط في وجود هذه الحسابات، بل في قدرتها على تحويل الأكاذيب إلى حقائق متداولة. فيكفي أن يُطلق خبر كاذب مدعوم بجيش من الحسابات حتى ينتشر بسرعة تفوق الأخبار الصحيحة بأضعاف، كما أشار تقرير لوكالة رويترز سنة 2023 إلى أن الأخبار الزائفة تنتشر أسرع من الحقائق بست مرات، هذه السرعة الهائلة تخلق بيئة مشوشة يفقد فيها المواطن القدرة على التمييز بين الصحيح والزائف، وتضعف بالتالي الثقة الجماعية في أي نقاش عام أو مؤسسة رسمية.
من المستفيد من التضليل الرقمي؟
لا يخفى أن الذباب الإلكتروني يخدم أطرافاً متعددة، في مقدمتها الأنظمة السياسية التي تسعى إلى إسكات الأصوات المعارضة والتحكم في مسار النقاش العام، والأحزاب التي تفضل تشويه الخصوم على خوض منافسة نزيهة بالبرامج والأفكار، إضافة إلى شركات اقتصادية تبحث عن تسويق منتجاتها أو القضاء على منافسيها بطرق ملتوية، ففي العالم العربي تحديداً، برز الذباب الإلكتروني خلال موجات الاحتجاجات السياسية والاجتماعية، حيث استُخدم كأداة لإضعاف الحركات الشعبية وتفكيكها عبر تشويه نشطائها وخلق انقسامات داخلية تقوض وحدتها.
التداعيات الاجتماعية والاقتصادية
يُدكر ان خطورة الظاهرة لا تتوقف عند حدود تشويه صورة الأفراد أو النقاشات، بل تمتد لتؤثر على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، فحين تتحول منصات التواصل إلى ساحات صراع تهيمن عليها الأكاذيب، يفقد المواطن الثقة في المؤسسات، ويصبح أكثر عرضة للإحباط والعزوف عن المشاركة السياسية.
من جهته حدر البنك الدولي في تقاريره من أن التضليل الرقمي يفاقم فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع، ما ينعكس سلباً على الاستثمار والتنمية الاقتصادية. فالمستثمرون لا يضعون أموالهم في فضاءات يغلب عليها الغموض والفوضى المعلوماتية، والمجتمعات لا تستطيع بناء تنمية حقيقية في غياب وعي جماعي قائم على المعلومة الصحيحة.
أرقام تكشف حجم الأزمة
إحصائيات حديثة تؤكد أن مستخدم الإنترنت العربي يقضي ما يقارب ثلاث ساعات يومياً على منصات التواصل الاجتماعي، وهو وقت كافٍ لتلقي جرعات كثيفة من التضليل إذا لم يجد محتوى جاداً ومتوازناً .. هذا و قد وثقت منظمة العفو الدولية ما يفوق مئة ألف هجوم إلكتروني منسق على ناشطين في المنطقة خلال ثلاث سنوات فقط، مما يعكس حجم الاستثمار في هذا المجال. أما على المستوى العالمي، فالتقارير تشير إلى أن ميزانيات ضخمة تُخصص لحملات التضليل تفوق في بعض الحالات ميزانيات الإعلام الرسمي.
معركة الحقيقة في زمن الزيف
المعركة مع الذباب الإلكتروني ليست معركة تقنية فقط، بل هي صراع وجودي بين الحقيقة والزيف. كلما تكررت الأكاذيب وانتشرت، كلما ترسخت في الوعي الجمعي وصارت صعبة التفكيك، وهذا ما يجعل مواجهة الظاهرة مسؤولية جماعية تتطلب وعياً نقدياً وإعلاماً مهنياً وتشريعات صارمة تحمي الفضاء الرقمي، إن أخطر ما يواجهه المجتمع ليس ضجيج الذباب ولا شتائمه، بل نجاحه في إعادة تشكيل الوعي وتوجيهه بما يخدم مصالح ضيقة على حساب المصلحة العامة.
الوعي خط الدفاع الأخير
الذباب الإلكتروني ليس مجرد إزعاج عابر، بل هو سرطان رقمي ينهش جسد الحقيقة ويهدد استقرار المجتمعات.. وإذا كان الإرهاب يهدد الأمن المادي، فإن التضليل الرقمي يهدد الأمن الفكري، وهو أكثر خطورة لأنه يزرع الشك في النفوس ويهدم الثقة في المؤسسات. في النهاية، تظل الحقيقة الضحية الأولى لهذه الحملات، بينما يصبح المواطن عاجزاً عن التمييز بين من يخدم مصلحته ومن يخدعه. إنها معركة وعي بامتياز، وخط الدفاع الأخير فيها هو وعي المواطن الذي عليه أن يسائل، يشكك، ويدقق قبل أن يمنح عقله للذباب.