
تحرير: جيهان مشكور
في لقاء تفاعلي جمع الخبير الاقتصادي، الدكتور نجيب أقصبي، مع شباب حركة “الجيل زد (Z)” على منصة “ديسكورد”، قدّم الأكاديمي المعروف تشخيصًا دقيقًا وعميقًا لواقع الاقتصاد المغربي، كاشفًا عن أعطابٍ بنيوية متجذّرة تعيق التنمية وتُكرّس البطالة، خصوصًا في صفوف الشباب.
حديث أقصبي لم يكن تقنيًا بحتًا، بل حمل بُعدًا اجتماعيًا وتحليليًا يربط الاقتصاد بمستقبل الأجيال الصاعدة في ظلّ سياسات عمومية وصفها بأنها غير منتجة للثروة ولا مُحفِّزة على التشغيل.
اقتصاد “يهدم لا يخلق”: أزمة بنيوية لا ظرفية
بدأ الدكتور أقصبي مداخلته بملاحظة لافتة: “الاقتصاد المغربي، في بنيته الحالية، لا يخلق مناصب شغل، بل يهدم أكثر مما يخلق.”
بهذا التوصيف الصادم، يضع أقصبي الأصبع على جوهر المعضلة الاقتصادية: النمو غير المنتج، والمشاريع التي تُقام دون أن تترجم إلى فرص عمل حقيقية أو تحسين ملموس في مستوى المعيشة.
فالاقتصاد المغربي، وفق رؤيته، لا يُعاني من ضعف الموارد بقدر ما يُعاني من سوء الاختيارات، حيث تم توجيه الجهود لعقود نحو قطاعات محدودة العائد الاجتماعي، في حين تم إهمال القطاعات المنتجة والمولّدة للشغل، مثل الفلاحة العائلية والصناعات التحويلية والمقاولات الصغيرة والمتوسطة.
اقرأ أيضا….
جيل “زد”: ضحية التحولات الديمغرافية والاقتصادية
يؤكد أقصبي أن “جيل زد” ، أي الشباب المولودين بين 1996 و2012، هو الأكثر تأثرًا بهذا الواقع، لأنهم نشأوا في فترة انتقال ديمغرافي صعبة لم تُواكبها إصلاحات اقتصادية حقيقية..
ففي الوقت الذي كان يفترض أن تستفيد البلاد من “الهبة الديمغرافية”، أي تزايد الفئة النشيطة، وجد الشباب أنفسهم أمام سوق شغل مشلول وفرص محدودة، ما خلق حالة من الإحباط وفقدان الثقة في الوعود التنموية.
ويضيف أقصبي أن هذا الوضع لا يمكن فصله عن غياب “استراتيجية وطنية شاملة لتشغيل الشباب” ، تدمج بين التعليم والتكوين المهني والسياسات الصناعية. بل إن المغرب، حسب رأيه، يعيش اليوم مفارقة خطيرة: ملايين الشباب المؤهلين والعاطلين، في مقابل قطاعات اقتصادية تعتمد على اليد العاملة الرخيصة وغير المهيكلة.
النمو الاقتصادي: أرقام جميلة… وواقع بائس
في رده على الخطاب الرسمي الذي يصف المغرب بـ”البلد الصاعد”، يفنّد أقصبي هذه الرواية بالأرقام قائلاً إن “معدل النمو خلال العقد الأخير (2015-2024)” لم يتجاوز “2.68%” ، أي أقل بكثير من الحد الأدنى اللازم لتقليص البطالة وتحسين الدخل، وحتى إذا أضفنا توقعات سنة 2025، فإن المعدل العام لن يتعدى “2.85%” ، في حين ان تحول حقيقي، يحتاج حسب رُؤية أقصبي إلى نمو مستمر بين 7 و8% لمدة لا تقل عن 15 إلى 20 سنة.. فالنمو الضعيف يعني بالضرورة استمرار الفقر وتراجع الطبقة المتوسطة، بل وحتى تآكل الثقة الاجتماعية بين المواطن والدولة.
الفلاحة: اقتصاد تحت رحمة السماء
أحد أبرز مظاهر هشاشة الاقتصاد المغربي، بحسب أقصبي، هو “اعتماده المفرط على الفلاحة المطرية”، فـ 85% من الأراضي الفلاحية تعتمد على التساقطات، بينما لا تساهم الفلاحة بأكثر من 11 إلى 12% من الناتج الداخلي الخام، رغم أن 35% من المغاربة يعيشون منها.
ويشير الخبير إلى مفارقة واضحة: فلاحون كثر فقراء في بلد فلاحي، لأن الإنتاجية ضعيفة، والدعم يتركز في أيدي فئة محدودة من كبار المنتجين الموجهين للتصدير.. فهؤلاء يجنون الأرباح مستفيدين من الأراضي والمياه والإعفاءات و الدعم، في حين تظل الفلاحة العائلية الصغيرة تكافح للبقاء.
ويخلص أقصبي إلى أن المغرب ما زال يعيش “اقتصادًا زراعيًا بدائيًا” في قرى تعاني من التهميش، ما يجعل النمو الوطني رهينًا بنزول المطر لا بفعالية السياسات الاقتصادية.
الصناعة: وعود لم تتحقق واستقلال لم يُكتسب
ينتقل أقصبي إلى الحديث عن القطاع الصناعي الذي كان يفترض أن يشكل رافعة للتنمية، فيقول إن المخطط الصناعي لسنة 2014 وعد بأن ترتفع مساهمة الصناعة في الناتج الداخلي إلى 23% بحلول 2023، وأن يُخلق مليون منصب شغل.
لكن الواقع اليوم يُظهر أن النسبة لم تتجاوز 15 إلى 16%، وأن المناصب الموعودة بقيت حبرًا على ورق.
ويرجع أقصبي ذلك إلى طبيعة الصناعة المغربية المعتمدة على المناولة، حيث يتم إنتاج أجزاء من السلع فقط دون التحكم في سلاسل القيمة، في قطاع السيارات مثلًا، لا تتعدى القيمة المضافة المحلية 40 إلى 45%، أي أن نصف الأرباح تقريبًا تذهب إلى الخارج.
و يرى المتحدث ذاته، أن هذا النمط يجعلنا تابعين للقرار الأجنبي، لأن الشركات المتعددة الجنسيات قد تغادر في أي لحظة نحو بلدان توفر امتيازات أفضل.. وهذا ما يسميه غياب الاستقلال الصناعي الحقيقي، الذي يُفترض أن يضمن للمغرب سيادة اقتصادية وقدرة على الاستمرار.
الخدمات والاقتصاد غير المهيكل: وجه آخر للهشاشة
أما القطاع الثالث (الخدمات)، فيتسم هو الآخر بالازدواجية: فبينما تحقق قطاعات مثل البنوك والاتصالات والسياحة أرباحًا ضخمة، يعيش جزء كبير من الخدمات في “القطاع غير المهيكل” ، أو ما يسميه أقصبي “اقتصاد البؤس”.
هذا الاقتصاد يستوعب ملايين العمال في أنشطة عشوائية، بلا حماية اجتماعية أو استقرار، ما يجعله صمام أمان مؤقتًا، لكنه في الوقت نفسه “يُعمّق الهشاشة الاجتماعية ويُضعف المردودية الوطنية” .
كما يشير أقصبي، في حواره مع جيل “زد”، إلى أن تمركز الثروة في أيدي عدد محدود من الفاعلين الاقتصاديين جعل الخدمات تسير بمنطق الربح لا بمنطق المصلحة العامة، وهو ما يفاقم الفوارق الطبقية ويُضعف العدالة الاقتصادية.
تبعية داخلية وخارجية: اقتصاد بلا سيادة
في خلاصة تحليله، يلخّص أقصبي الوضع في ثلاث جمل قوية:
“في الفلاحة نحن تابعون للسماء..
وفي الصناعة تابعون للأسواق الأوروبية..
وفي الخدمات تابعون للسياحة والطلب الخارجي.”
بهذه العبارات، يوجز الخبير المغربي جوهر الأزمة: “غياب محركات نمو داخلية حقيقية” ، تجعل المغرب دائم التعلّق بالعوامل الخارجية فكلما شح المطر، أو تراجعت السياحة، أو تباطأ الطلب الأوروبي، دخل الاقتصاد في ركود جديد.
وهذا ما يجعل المغرب، في نظر أقصبي، بحاجة إلى إعادة بناء اقتصاده من الجذور، عبر خلق منظومة إنتاج وطنية مستقلة تُعطي الأولوية للتصنيع المحلي، وتشجع المقاولات الصغرى والمتوسطة، وتربط التعليم بسوق الشغل، مع إصلاح عميق للسياسات المالية التي تخدم الاستثمار المنتج لا المضاربات العقارية والريعية.
نحو مشروع وطني للنهوض الاقتصادي
نداء موجه للشباب:
“المعركة اليوم ليست ضد البطالة فقط، بل من أجل تغيير النموذج الاقتصادي برمّته.”
إذ يرى أقصبي، أن الرهان الحقيقي يكمن في الجيل الجديد من المغاربة، القادرين على التفكير خارج منطق التبعية، وعلى المطالبة بإصلاحات شاملة تُعيد الاعتبار للعمل المنتج، والتعليم الجيد، والعدالة في توزيع الثروة.
بهذا الخطاب العميق والمباشر، قدّم الدكتور نجيب أقصبي رؤية نقدية لا تكتفي بتوصيف الأزمة، بل تدعو إلى تحرير الاقتصاد المغربي من قيود التبعية البنيوية، وإرساء أسس تنمية شاملة تُعيد الأمل لجيلٍ يشعر اليوم بأنه وُلد في زمن التحولات… لكنه لم يجد مكانه فيها بعد.







