اقتصادالرئسية

أقصبي: الريع والاحتكار ليسا صدفة بل نتيجة لزواج غير شرعي بين السلطة والمال

تحرير: جيهان مشكور

في استكمالٍ للنقاش العميق الذي جمع الدكتور نجيب أقصبي بشباب حركة الجيل زد المغربي، انتقل الحوار إلى قلب البنية الاقتصادية للمغرب، حيث رسم الخبير الاقتصادي صورة دقيقة لاقتصادٍ “ريعي واحتكاري” تحكمه الامتيازات أكثر مما تحكمه المنافسة، وتتحكم فيه العلاقات السياسية أكثر مما تحكمه قواعد السوق.

الريع والاحتكار أدوات لضبط السلطة وإدامة نفوذها

يقول أقصبي بوضوح: “لا يمكن فهم الاقتصاد المغربي بمعزل عن السياسة، لأن الريع والاحتكار ليسا مجرد ظاهرتين اقتصاديتين، بل أدوات لضبط السلطة وإدامة نفوذها.”

هكذا يضع أقصبي النقاش في إطاره الحقيقي: الحديث عن الاقتصاد في المغرب هو في جوهره حديث عن توازنات السلطة، وعن الكيفية التي تُدار بها الثروة والفرص.

مفهوم الريع… من النظرية إلى الواقع المغربي

ينطلق أقصبي في تحليله من الجذور الفكرية لمفهوم” الريع الاقتصادي” كما صاغها الكلاسيكيون أمثال ريكاردو وآدم سميث وجون ستيوارت ميل، مبرزًا أن الريع هو ذلك الدخل الذي لا ينتج عن عملٍ أو مخاطرة، بل عن امتياز أو موقعٍ متميز في السوق، ويضرب مثالًا لتبسيط الفكرة: “حين تنتج قطعة أرض عشرين قنطارًا من القمح، وأخرى لا تتجاوز عشرة رغم أن الجهد واحد، فالفارق هنا ليس نتيجة العمل، بل هو ريع طبيعي.

غير أن ما يسميه الاقتصاديون “ريعًا طبيعيًا”، تحوّل في الحالة المغربية – كما يؤكد أقصبي – إلى “ريعٍ سياسي” ، تُوزّعه السلطة على من تشاء وتمنعه عمّن تشاء، فيتحوّل الاقتصاد إلى شبكة من الولاءات والمصالح المتبادلة.

الريع كأداة للنفوذ السياسي

في قراءته للواقع المغربي، يربط أقصبي بين” الريع والسلطة” ربطًا بنيويًا.

فالريع، في نظره، لم يعد امتيازًا اقتصادياً، بل “أداة للضبط السياسي والاجتماعي” تُستخدم لضمان الولاء وإسكات الأصوات المنتقدة.. و يقول: “السلطة تمنح امتيازات لفئة محدودة من الفاعلين، تحقق أرباحاً طائلة دون أن تنتج شيئاً، لكنها تظل خاضعة للسلطة، لأن امتيازها قد يُسحب في أي لحظة.”

ويستحضر أقصبي مصطلح “اللكريمة” كمثال صارخ على هذا النمط من الريع، في قطاعات مثل “النقل العمومي، و الصيد البحري، و المقالع، وأسواق الجملة..

أصحاب “اللكريمات” – كما يوضح – يجنون مداخيل بملايين الدراهم دون عمل أو مخاطرة، فقط بفضل علاقة قُرب من السلطة، ما يجعلهم جزءاً من” تحالف مصالح” يُكرّس احتكار الثروة ويمنع تجديد النخب الاقتصادية.

من الريع إلى الاحتكار… اقتصاد بلا منافسة

و في ذات السياق، يعتبر أقصبي أن” الاحتكار هو الوجه الآخر للريع” ، إذ يتحكم عدد محدود من الشركات في قطاعات حيوية مثل “السكر و المحروقات و مواد البناء الاتصلات … ” ، في غياب تام لآليات المنافسة الحرة. ف”الأسعار تُحدَّد بالتفاهم لا بالمنافسة، والسوق يُدار بالتواطؤ لا بالعرض والطلب”، و يقول أقصبي، إن هذا الوضع يُفرغ فكرة “اقتصاد السوق” من معناها الحقيقي، وهكذا، يتحول الريع إلى” جدار زجاجي” يمنع الكفاءات من الصعود، ويكرس الفوارق بين فئة تملك الامتياز وفئة تبحث عبثًا عن فرصة في سوق غير متكافئة.

فالاحتكار، في جوهره، ليس مجرد هيمنة اقتصادية، بل” هيمنة سياسية مقنّعة”، لأن من يتحكم في السوق يملك بالضرورة مفاتيح التأثير في القرار العام.

ثمن الريع والاحتكار… بطالة، تهميش، وضعف إنتاج

يحذّر أقصبي من أن استمرار هذه البنية الريعية يكلّف الاقتصاد الوطني ثمنًا باهظًا.. فالريع والاحتكار، كما يشرح، “يخنقان روح المبادرة ويمنعان المنافسة” ، مما يجعل السوق المغربية مغلقة أمام المستثمرين الشباب والمقاولات الصغرى..

يضرب أقصبي مثالاً من الواقع الفلاحي: “حين يُمنح امتياز استيراد الأغنام أو الحبوب لأشخاص بعينهم، قبل صدور القانون المنظم، فإننا أمام حالة ريع صافية.. يربح البعض الملايين، بينما يخسر الاقتصاد الوطني تنافسيته، ويُحرم المواطن من الأسعار العادلة.”

بهذا المنطق، لا يُعاد توزيع الثروة على أساس العمل أو الابتكار، بل على أساس القرب من مركز القرار، وهو ما يجعل الاقتصاد المغربي – في رأي أقصبي – “اقتصاداً بلا عدالة، وسوقاً بلا حرية.”

اقرأ أيضا…

نجيب أقصبي: الاقتصاد ليس أرقامًا…بل مرآة للمجتمع وديناميته

السلطة والمال… زواج غير شرعي

في ختام تحليله، يلخّص نجيب أقصبي رؤيته بعبارة موجزة: “الريع والاحتكار ليسا صدفة في الاقتصاد المغربي، بل نتيجة لزواج غير شرعي بين السلطة والمال.”

هذا “الزواج” كما يسميه، خلق طبقة اقتصادية مرتبطة بالقرار السياسي، تستفيد من الامتيازات وتحمي النظام القائم، في حين يُحرم أغلب المواطنين من فرص الارتقاء الاقتصادي والاجتماعي.

نحو اقتصاد يحرر الإنسان قبل السوق

قراءة الدكتور أقصبي للواقع الاقتصادي المغربي لا تقف عند التشخيص، بل تدعو إلى “تحرير السياسة من هيمنة المصالح”، و “تحرير السوق من قبضة الاحتكار”، لبناء اقتصاد يخدم الإنسان لا السلطة.

ففي نظره،”إعادة توزيع الامتيازات لا تكفي، بل يجب إعادة بناء المنظومة كلها على أسس العدالة والمساءلة والشفافية.”

فحسب أقصبي “لا يمكن بناء اقتصاد قوي في ظل اقتصاد الريع، كما لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية في ظل اقتصاد محكوم بالمحاباة.”

وبينما يستمر الحوار مع حركة الجيل زد، يبدو أن هذا النقاش يفتح أفقًا جديدًا بين جيلٍ يرفض الصمت، وخبيرٍ يرى أن الأمل في التغيير يبدأ من الوعي، لأن “من يفهم الاقتصاد يفهم السلطة، ومن يفهم السلطة يملك مفتاح التغيير.”

اقرأ أيضا…

أقصبي”.. جيل “زد” ضحية التحولات الديمغرافية والاقتصادية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى