
تحرير: جيهان مشكور
لم يعد العطش وحده ما يثير القلق في مدينة تارودانت، بل حتى الماء الذي يُفترض أن يُروي العطش صار بدوره سببًا للذعر.. فخلال الأيام الأخيرة، استيقظ السكان على واقع صادم: مياه الصنابير تفوح منها روائح كريهة تشبه رائحة المواد العضوية المتحللة أو روث الحيوانات، في مشهد يختصر اختلالًا بيئيًا وصحيًا يكشف هشاشة منظومة المراقبة والتدبير في واحدة من أقدم المدن المغربية.
روائح تفضح ما وراء الأنابيب
لا يتحدث السكان عن “روائح عابرة” ،بل عن أزمة تتكرّر وتزداد حدّة، خصوصًا مع تزامنها مع شكايات سابقة بشأن انتشار روائح روث البقر والنفايات في منطقة “لاسطاح” المجاورة، التي يشتبه في كونها مصدر التلوث، فحينما تتقاطع النفايات العضوية مع شبكة المياه الجوفية، يصبح الحديث عن “احتمال التسرّب” مجرد تلطيف لغوي لحقيقة تلوث بيئي قائم، والنتيجة ماءٌ ملوث يوزَّع عبر الصنابير، وكأن الدولة نفسها أصبحت تسقي مواطنيها قلقًا بدل الطمأنينة.
مخاوف صحية وسط صمت رسمي
ما بين الخوف على الأطفال وكبار السن، والشك في صلاحية المياه للاستهلاك، يعيش المواطنون حالة ترقب تشبه انتظار “التحاليل الطبية” لمريض يخفي عنه الأطباء حقيقة مرضه.. فهل نحن أمام أزمة عابرة أم مؤشر على خلل هيكلي في مراقبة جودة المياه؟
في هذا السياق يؤكد الأطباء أن التعرض المستمر للمياه الملوثة قد يؤدي إلى أمراض الجهاز الهضمي والتهابات جلدية، في حين تشير دراسات وطنية إلى أن المغرب يفقد سنويًا ملايين الدراهم بسبب الأمراض المرتبطة بتدني جودة المياه في المناطق شبه الحضرية والقروية، ومع ذلك، تظل مؤسسات المراقبة في كثير من الأحيان غائبة أو تكتفي بتصريحات “احترازية” لا تُشفي غليل السكان.
أزمة الماء… مرآة لأزمة الحكامة
ما يجري في تارودانت ليس حادثًا بيئيًا معزولًا، بل عنوان لأزمة أعمق تتعلق بحكامة تدبير الموارد الأساسية ففي بلد يُنفق مليارات الدراهم على مشاريع التحلية والسدود، ما زالت مدن بأكملها تواجه خطر تلوث المياه من أبسط منافذها.. فالتقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات حذّر من ضعف التنسيق بين الجماعات المحلية والمكاتب الجهوية للماء، وغياب خطط استباقية لمراقبة جودة المياه في المناطق التي تعتمد على الآبار الجوفية، وهي الحالة التي تنطبق تمامًا على تارودانت.
حين يتحول الماء إلى اختبار للثقة
أمام هذا الوضع، لا يطالب السكان بالكثير، فقط “كأس ماء آمن”، مطلب يبدو بسيطًا لكنه في واقع الأمر يختبر مصداقية الدولة ومؤسساتها، فهل ستتحرك الجهات الوصية لإجراء تحاليل شفافة ونشر نتائجها علنًا؟ أم سيُكتفى بإرسال صهاريج مياه مؤقتة لتهدئة الغضب الشعبي؟
الحق في الماء النقي ليس ترفًا، بل بندًا دستوريا، ومؤشرًا على احترام كرامة المواطن.. ومع استمرار انبعاث الروائح من الصنابير، يبدو أن ما يتبخر اليوم ليس الماء، بل الثقة في قدرة المؤسسات على حماية أبسط حقوق الإنسان في الحياة.






